بقلم: شحاته عوض
المصدر: جريدة القدس العربي (22/1/2012)
'أنصاف الثورات مقابر للشعوب' هذه العبارة هي إحدى الشعارات التي يرفعها الثوار والنشطاء في ميدان التحرير في قلب القاهرة الآن بينما المصريون يستعدون لإحياء مرور عام على إندلاع ثورتهم. هذه العبارة تعكس بعمق مشاعر قطاعات واسعة من القوى الثورية والسياسية في مصر، وهي مشاعر يختلط فيها الإحباط مما تعرضت له مسيرة الثورة من حملات تشويه وإستنزاف وضربات، مع الإصرار على إستكمال الثورة لاهدافها ومسارها مهما بلغت كلفة التضحيات ومهما كانت فداحة الثمن. رافعو هذا الشعار الذين يشكلون النواة الصلبة للثورة يدركون جيدا أن هناك أطرافا عديدة لا تريد للثورة أن تكتمل وأن تبقى نصف ثورة أو حتى مجرد إنتفاضة شعبية إنتهت باختفاء مبارك من المشهد السياسي مع بقاء نظامه دونما تغييرجوهري. وليس صحيحا أن المجلس العسكري وحده أو بقايا النظام الساقط وحدهم من يريدون ذلك، بل إن هناك قوى سياسية محسوبة على الثورة تسعى لقطع الطريق عليها وترى أنها حققت ما قامت من أجله.
لا شك أن إحدى أهم محن الثورة المصرية وهي تمر بتلك اللحظة التاريخية، تتجلي بوضوح في هذا التباين اللافت في طريقة تعاطي القوى التي تشكل المشهد السياسي، مع الذكرى لإنطلاقتها، فهناك من يدعو للإحتفال والفرح لأن الثورة نجحت واكتملت وحققت كل أهدافها وأن كل من يقول بغير ذلك يريد إسقاط الدولة المصرية وإدخال البلاد في حالة من الفوضى، وهذا ما يمثله موقف المجلس العسكري ومؤيديه ،وهناك القوى الثورية وشباب الثورة الذين لا يرون في المناسبة ما يدعو للإحتفال أو الاحتفاء بقدر ما يدعو للإصرار والتمسك باستكمال أهداف الثورة وتصحيح مسارها الذي إنحرف عن كل ما قامت من أجله. وثمة طرف ثالث يقف ما بين الطرفين يرى أن المناسبة تستدعى الأحتفال والتعاون مع البرلمان المنتخب لتحقيق مطالب الثورة وهذا رأي تعبر عنه القوى الإسلامية وعلى رأسها الإخوان المسلمون.
ربما لا يبدو في الأمر ما يدعو للدهشة بقدر ما يدعو للآسى والحزن، لأن كل طرف من أطراف المشهد الثلاثة ينطلق في تعاطيه مع ذكرى إنطلاق الثورة، من منظوره وحساباته ومصالحه السياسية بغض النظر عن مصالح الوطن والثورة في النهاية. وفي هذا الصدد يبدو الفارق شاسعا في مواقف الاطراف الثلاثة..فالثورة بالنسبة للمجلس العسكري كانت مجرد إنتفاضة شعبية إستغلتها المؤسسة العسكرية لتحقيق أكثر من هدف في وقت واحد، منها قطع الطريق على سيناريو توريث الحكم من مبارك لنجله ،وتصفية حساب مع بعض رموز النظام السابق الذين كانوا على خلاف مرير وصامت مع المؤسسة العسكرية، لكن الهدف الأهم هو منع الثورة من إستكمال رحلتها ووضعها في منزلة وسطى ما بين الإنتفاضة الشعبية والثورة، لان إستكمال الثورة يعني تغيير النظام برمته وليس الإطاحة برأسه كما فعل المجلس العسكري. ووفقا لهذا التصور فإن الثورة إنتهت برحيل مبارك ومحاكمة عدد من رموز نظامه الفاسدين مع بعض إجراء بعض التعديلات والتغيرات الشكلية التي لا تمس جوهر ولا بينة النظام السياسي القائم. ولعل ذلك يفسر ويجلي الكثير من الغموض عن وقرارات ومواقف المجلس العسكري من الثورة منذ إندلاعها، فكل هذه المواقف تظهر بوضوح أن أعضاء المجلس الذي هو في حقيقة الأمر جزء أصيل من نظام مبارك، يدركون في عمق أعماقهم أنه لا فضل لهم في هذه الثورة ولم يشاركوا فيها ولم يصنعوها، بل ظلت المؤسسة العسكرية حتى آخر لحظة منحازة لمبارك وأتاحت له كل الفرص لانقاذ نظامه، لكنها حين أيقنت أن نظام مبارك في طريقة للسقوط آثرت الانحياز للثورة والتضحية بمبارك لإنقاذ النظام. ووفق هذا التصور فإن المجلس يسعى جاهدا لمنع الثورة من تجاوز هذه الحدود لأنه يدرك جيدا أن ذلك يعني تغييرا كاملا في قواعد اللعبة السياسية. ومن هنا لا يبدو مستغربا أن المجلس العسكري الذي أعلن عن سلسلة من المهرجانات والمسابقات للإحتفال بذكرى الثورة وإعتبارها عيدا وطنيا، هو نفسه الذي ينكل بالثوار ويلاحقهم قضائيا ويشوه صورتهم عبر الإعلام الرسمي أوعبر بعض مناصريه في الاعلام الخاص، وهو نفسه الذي يحرض 'المواطنين الشرفاء' للتصدي لهولاء المخربين الذين يضمرون السوء للوطن، والمقصود هنا بالطبع الثوار والنشطاء.
من جانبها فإن القوى السياسية الدينية التي حققت فوزا كاسحا في الانتخابات البرلمانية ترى أن الثورة قد إنتهت بإجراء الانتخابات البرلمانية التي تعد رغم كل ما شابها من عيوب ومآخذ، الانتخابات الاكثر نزاهة وديمقراطية في تاريخ مصر الحديث، وبالتالي ووفق هذا الرأي، يحق للمصريين أن يحتفلوا بثورتهم وما حققته من إنجازات كان أهمها الانتخابات كاحد أهم ثمار الثورة. وفي هذا الإطار يمكن رصد العديد من الدعوات والتصريحات التي بدأت تخرج من أوساط جماعة الاخوان المسلمين بضرورة إفساح المجال أمام البرلمان المنتخب للعمل والإنطلاق لإستكمال أهداف الثورة، وهو ما يفهم منه ضمنا أنه رسالة للثوار والقوى الثورية بأن عليهم أن يعودوا إلى بيوتهم ويتيحوا الفرصة لنواب الشعب أن يبدأوا مهامهم. لكن ما يتعمد أنصار مثل هذه الدعوات تناسيه أن مصر تعيش ثورة لم تكتمل بعد، وأن الأنتخابات التي يستمدون شرعيتهم منها هي بالاساس ثمرة لهذه الثورة أي أنها ماكانت لتجري وما كان لهولاء أن يكونوا أعضاء في برلمان مصر أوحتى أن يترشحوا لخوض الإنتخابات لولا هذه الثورة ولولا دماء مئات الشهداء والاف المصابين الذين سقطوا وآلاف المعتقلين الذين يحاكمون عسكريا.
أعتقد أن على هؤلاء الذين تحولوا سريعا من موقع المعارضين المطاردين إلى مقاعد البرلمان والسلطة أن يتواضعوا قليلا والأ ينسوا في غمرة الإنتشاء بالنصر هذه، أنه لولا ثورة يناير ما كانوا في مقاعدهم تلك. لكن الأهم أن علي هذه القوى أن تدرك جيدا أن الحالة الثورية ستستمر حتى تتحق الاهداف، وأن شرعية البرلمان لن تكون أبدا بديلا عن شرعية الثورة والميدان، وأن الأجدى لمصر والأنفع لهذه القوى أن تسعى للتكامل بين الشرعيتن لا الصدام بينهما لأن الثمن سيكون فادحا والخسارة ستصيب الوطن ومستقبله. إن هذا التكامل والتناغم بين البرلمان والميدان في هذه اللحظة الثورية سيكون الضمانة الحقيقية لاستكمال أهداف الثورة وصولا لبناء النظام السياسي الجديد على أسس سليمة تليق بثورة يناير وتضحيات شبابها. فلا البرلمان يستطيع أن يؤدي مهامه التشريعية والرقابية والدستورية في مواجهة ضغوط والاعيب العسكر، دون أن يكون لها ظهير شعبي يتمثل في الثورة وميادينها، ولا الثورة يمكن أن تستكمل أهدافها دون أن تكون هذه الأهداف هي جدول أعمال البرلمان الجديد الذي ينبغي في هذه اللحظة أن يجسد أحلام وطموحات المصريين وثورتهم. وهذا يلقي على عاتق القوى السياسية الرئيسية في هذه البرلمان مسؤولية سياسية وأخلاقية في ألا تفكر يوما في الدخول في صفقات أو توافقات تكون على حساب الثورة وأهدافها. كما أنها ستكون بالقدر نفسه أمام أختبار حقيقي حين تجد نفسها مضطرة للاختيار بين الانحياز للثورة والثوار وبين التوافق والتفاهم مع المجلس العسكري وحتى اللحظة يبدو الأمل كبيرا في أنها ستكون في صف الثوار، وهو أمل يستند في مجمله على خطاب هذه القوى وعلى التجربة الطويلة لها مع القهر والاستبداد.
ونصل إلى الطرف الثالث الذي لا يرى في الخامس العشرين من يناير سوى فرصة لإستعادة روح الثورة والعمل على تصحيح مسارها وصولا لتحقيق أهدافها الأساسية في العيش والكرامة والحرية والعدالة الاجتماعية وهي أهداف لم يتحقق منها شيء. هذا الطرف تمثله القوى الثورية وشباب الثورة المتمسكون بإستكمال أهدافها. وفي ظني أن هذا الطرف هو الأقوى في المعادلة المصرية الآن، والأقوى هنا ليست بالمعيار المادي فالمجلس العسكري هو الأقوى بهذا المعيار، وليس القوة بالمعني السياسي فالإخوان والتيارات الدينية هي الاقوى بالنظر لما حصدته من أغلبية في البرلمان. قوة الثوار تبدو هائلة بالمعيار الأخلاقي ونبالة المقصد والهدف، وهذا هو ما يمنحهم التفوق في مواجهة خصومهم ومناوئيهم وحتى في مواجهة من ينازعونهم الشرعية والحديث بإسم الثورة. فهؤلاء الثوار قد يتسمون بالرومانسية الثورية أحيانا، وربما ينطلق بعضهم من خطاب عدمي يستند إلى معادلة صفرية لا مكان فيها للون الرمادي بما يتنافى ومقتضيات اللعبة السياسية، وقد يؤخذ عليهم عدم التوحد والتشرذم وتضخم الأنا عند بعضهم، وقد تغلب عليهم روح التشاؤم. لكن ذلك كله لا ينفي حقيقة أن هذه القوى هي التي دفعت الثمن الأفدح لإنجاح الثورة دما وأرواحا طاهرة وعيونا وأبصارا.
إن قوة الثوار تكمن في أنهم لا يدافعون عن مصالح أو مكاسب إقتصادية وأمتيازات يخشون ضياعها، ولا يطمحون لتحقيق مكاسب سياسية.إنهم فقط يدافعون عن مصر ومستقبلها، يدافعون عن الثورة وأهدافها، يدافعون عن حقوق شهداء مازالت دماؤهم تستصرخ القصاص من قاتليهم، يدافعون عن حقوق أكثر من نصف المصريين الذين يعيشون تحت خط الفقر بينما القلة الفاسدة الحاكمة المتحكمة مازالت تسرح وتمرح في ثروات وخيرات هذا الوطن. هذا هو سر قوة الثوار التي لا يباريهم فيها طرف آخر، وهذه القوة هي التي تفتح كل طاقات وأبواب الأمل والتفاؤل بأن ثورة المصريين ستكمل أهدافها مهما كانت العقبات. لكن ذلك يبقى رهنا بقدرة الثوار على الحفاظ على علاقة وطيدة مع حاضنتهم الشعبية وبنجاحهم في إقناع بسطاء المصريين وفقرائهم بعدالة ونبالة ما يرفعونه من أهداف ومطالب، وهي مهمة تبدو بالغة الصعوبة في ظل حملة التشوية والكذب التي تمارس حاليا ضد كل ما له علاقة بالثورة والثوار.
' كاتب مصري
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق