بقلم:
محمود جبر
على
الرغم من مرور سنوات على صيحة الرئيس الأمريكي السابق (جورج بوش الأب) وهو يقف
ليعلن بداية نظام دولي جديد يحل على العالم1991م، إلا أن مابين تلك الصيحة ويوم
11/9/2001 لم يشهد العالم استيعابا واضحا لحقيقة هذا النظام الدولي الجديد ومكوناته
وخصائصه، وما تم فيما بين التاريخين لم يخرج عن تشخيصات السياسيين وتصورات الاكاديميين
وهم يلتمسون البحث عن ملامح هذا النظام.
ومع
أن الأمر كذلك فانه لا يمنع من القول أن الولايات المتحدة الأمريكية كانت تتلمس
طريقها نحو الهيمنة المطلقة على عالم ما بعد الحرب الباردة.
وكانت
رؤية المحافظين الجدد أن الولايات المتحدة لديها فرصة تاريخية غير مسبوقة وربما
غير متكررة لترتيب خريطة القوة في العالم، وتغيير الجغرافيا والأنظمة لو لزم الأمر
بما يحقق الهيمنة الأمريكية ويفرضها لأطول مدى ممكن.
ونتيجة
للتفوق المطلق للقوة العسكرية لدى الولايات المتحدة الأمريكية، وأزمتها الاقتصادية
أعطت لأداة القوة العسكرية الأولوية على ما عداها من الأدوات لتحقيق هدف الهيمنة
على العالم.
ولما
كان استخدام القوة العسكرية على الساحة الدولية أمراً بالغ الحساسية من قبل الحلفاء
قبل الاعداء، أرادت الولايات المتحدة أن توجد مبررا لهذا الاستخدام.
وكما
أقنعت الولايات المتحدة من قبل حلفائها بخطر الشيوعية، واشتركوا معها لعقود في حرب
باردة ضروس ضد الدول الشيوعية وعلى رأسها الاتحاد السوفيتي، بنفس المنطق كان لابد
لها من ايجاد سبب يبرر استخدامها لأداتها العسكرية على الساحة الدولية، وتحشد حلفائها
بامكانياتهم من خلفها.
ومع
بروز ما يسمى بالصحوة الإسلامية بخلفياتها الأصولية المتشددة، لعبت الولايات
المتحدة الأمريكية على وتيرة خلق تيارات إسلامية متطرفة تقدم الدعم المادي
والمعنوي لها، تستعمل قاعدة الجهاد في الدين الإسلامي في غير محلها وهدفها الشرعي
الحقيقي لشن هجمات عسكرية على تجمعات مدنية غير إسلامية، كل ذلك بهدف تخويف العالم
من الأصولية الإسلامية التي هي أساسا منشأ أمريكي.
وقد استفاد الولايات المتحدة من البيئة
الجغرافية المنعزلة والانغلاق الفكري لهذه الحركات المتطرفة، ومن حالة الفقر التي
تعيش في ظله لتدفعها إلى إعلان الجهاد ضد الشعوب غير الإسلامية بعد تكفيرها.
وهكذا
أوجدت الولايات المتحدة الأمريكية العدو البديل الذي يحل محل الشيوعية، لتستخدمه
تكأة لتطبيق إستراتيجية الهيمنة على العالم، وأصبحت الأوضاع كلها مهيأة في انتظار
شرارة البدء.
وجاءت
أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 لتكون هي شرارة البدء، فبعد وقوع الهجمات بساعات
قليلة خرجت تصريحات البيت الأبيض والإدارة الأمريكية لتلقي بالمسئولية على تنظيم القاعدة،
الذي اعتبرته مجرد أداة لهذه للأصولية الإسلامية المحرض الرئيسي على الجريمة، وبرز
ذلك جلياً حين استخدمت عبارة "حملة صليبية" (بالانجليزية: Crusade) من قبل الرئيس الأمريكي جورج بوش
في يوم 11 سبتمبر، 2001 وفي يوم الرثاء الوطني، حيث قال الرئيس الأمريكي:
"هذه الحملة الصليبية، هذه الحرب على الإرهاب ستأخذ بعض الوقت".
رغم أن هذا التعبير انتقد في دول اوروبا والدول العربية
والإسلامية، إلا أنه كان معبراً عن الاستراتيجية التي قرر المحافظين الجدد اتباعها
للسيطرة على العالم.
وفي
هذا السياق، كان ما أطلق عليه الحرب على الإرهاب؛ فكانت البداية في أفغانستان باعتبارها
مقراً لتنظيم القاعدة الأداة المنفذة للجريمة، واسترداداً للكرامة الأمريكية التي أُهينت
على يد هذا التنظيم أكثر منها بداية تطبيق الإستراتيجية الأمريكية.
لكن
البداية الحقيقية كانت في العراق؛ باعتباره نقطة انطلاق مثالية رئيسية لتطبيق الاستراتيجية
الأمريكية في منطقة المصالح الأمريكية الأكثر حيوية في العالم وهي الشرق الاوسط،
حيث منابع النفط، واسرائيل، وطرق المواصلات والتجارة.
وقدمت
الإدارة الأمريكية ذرائع كثيرة لتبرير حربها على العراق؛ منها دعمه لتنظيم القاعدة،
وحين عجزوا عن اثبات ذلك خرجت ذريعة امتلاكه أسلحة دمار شامل، وحين تأكد العالم من
زيف هذه الذريعة، طورت الولايات المتحدة ذريعة جديدة أكثر منطقية وأكثر هلامية تتناسب
مع طبيعة عدوها الذي حددته واستراتيجيها التي تطبقها؛ فقالوا بأن النظام السياسي
في العراق بقيادة حزب البعث وصدام حسين يعد نموذجا للديكتاتورية التي هي بيئة خصبة
لتفريخ منهج الأصولية الإسلامية، وأنهم يعملون على جعل العراق نموذجا ديمقراطيا
متنورا لدول المنطقة يجب أن يُحتذى حتى يمكنهم مواجهة الأصولية الإسلامية.
ورغم
الحسم السريع للآلة العسكرية الأمريكية في احتلال العراق في مارس 2003، جاءت النتائج
مخيبة للآمال؛ فقد أصبح العراق نموذجاً للفوضى والعنف، ومستنقعاً يستنزف ويحرج القوة
العسكرية الأمريكية. كما أن الولايات المتحدة واجهت كثير من الانتقادات على اتساع العالم
من قبل الحلفاء قبل الأعداء حتى في الداخل الأمريكي نفسه ضد الحرب على العراق، وأسلوب
إدارتها لهذا البلد.
بدأت
الولايات المتحدة تراجع أوراق اللعبة، ورأت أن تدخلها المباشر واستخدام القوة
المسلحة في إحداث التغيير الذي تريده من وجهة نظرها فقد مبرره بعد القضاء على
تنظيم القاعدة، وفضح جرائمها وفشلها في العراق.
كما
أن حالة من الكراهية والرفض للسياسات الأمريكية بدأت تسود العالم بصورة غير
مسبوقة، فلم تعد الولايات المتحدة في أذهان الكثيرين نموذجاً للحريات واحترام حقوق
الانسان ...الخ من ملامح الصورة البراقة التي صنعتها القوة الناعمة لأمريكا عبر
عقود، خاصة في ظل وسائل اتصال بالغة التقدم والسرعة أتاحت المعلومة للجميع، ولم تعد
الحقائق سراً يمكن اخفاءه طويلاً، وكل ذلك يهدد المصالح الأمريكية ويعرضها لخطر
شديد.
ومع
تنامي قوة ونفوذ الأصولية الإسلامية وفقدان السيطرة عليها، وقدرتها على تنفيذ
هجمات عسكرية في غير الأهداف المرسومة لها، وعجز الأنظمة الحليفة للولايات المتحدة
عن السيطرة عليها من خلال أدواتها التقليدية، التي تعتمد على الأداة الأمنية
واستخدام القمع أدركت الولايات المتحدة الأمريكية أن سلاح الدين الذي تعتمد عليه
الأصولية الإسلامية لا يمكن مواجهته إلا بسلاح مماثل، فكما واجهت الفكر الشيوعي من
قبل من خلال الفكر الليبرالي وشعارات حقوق الإنسان واقتصاد السوق...إلخ، كان لابد
من إيجاد فكر ديني قادر على مواجهة الأصولية الإسلامية.
وبالطبع
اتجهت الأنظار مباشرة إلى الصديق القديم، جماعة الإخوان المسلمين بما يحملون من
فكر ديني وسطي معتدل –حسب الرؤية الأمريكية- وكانت صلات الإخوان مع CIA و MI6 تعززت عندما وصل جمال عبد الناصر للسلطة عام 1954، وقدم حلفاء
الأنجلو-سكسونيون في الشرق الأوسط من مشايخ وأمراء النفط الدعم المالي والملجأ
الآمن للإخوان، وحسب "جان جونسون" مراسل سابق لصحيفةWall Street Journal، فإن موجة اهتمام جديدة بالإخوان المسلمين
بدأت في الدوائر العسكرية والسياسية للولايات المتحدة بعد دخول القوات السوفيتية
أفغانستان في 1979، وبعد عام 1991 تراجع الإخوان المسلمون إلى الخلفية.
وبدءاً من عام 2004، بدأ المحافظون الجدد لإدارة
بوش الابن في حماستهم لإعادة استخدام الإخوان مجدداً، وبات واضحاً أن الولايات
المتحدة أرادت استخدام وكلاء لها، وهذا نهج أمريكي كثيراً ما تلجأ له حين لا تريد
أن تتورط أو تلوث يدها بسياسات قذرة تشوه سمعتها المزيفة، فتلقي بالعبء على من
يقبل القيام به نيابة عنها ويقبض الثمن.
وقررت
إدارة المحافظين الجدد في إتباع نهج جديد في تغيير خريطة منطقة الشرق الأوسط، في
إطار مشروع الشرق الأوسط الجديد أو الكبير من خلال خطة تفجير داخلية؛ تلعب فيه
جماعة الإخوان دوراً رئيسياً؛ حيث اللعب على وتر التناقضات والاختلافات سواء
العرقية أو الدينية أو المذهبية، أو الاحتكاكات بين النظم والشعوب، بما يؤدي إلى
فوضى، وفي مناخ الفوضى يمكن للأقوى أن يحكم السيطرة على المسار ويوجهها ويوظفها
بما يصب في مصلحته؛ فمن رحم الفوضى تتولد أطر ومرتكزات جديدة لضبط حركة الواقع
المضطرب، وهكذا أرادت واشنطن أن تخلق أزمة في المنطقة تحصل من خلالها على فرصة
أكبر للحركة.
ويشدد
باحثون ومفكرون في هذا المجال أن قوة الفوضى أنها تنقل العدوى إلى من حولها، وأنها
تشبه الزلزال عادة الذي له هزات ارتدادية في الدول الذي تشترك مع دولة المركز بالوضع
الاجتماعي أو السياسي أو ربما العرقي واللغوي.
هذه النظرية يتم تعريفها بالشكل الآتي: "فلسفة
سياسية تعمل على تحويل دولة الى حالة من الفوضى بحيث يتم تدمير أو تقليل سلطة القانون
التي تربط المجتمع الواحد في الدولة، وتخلق هذه الفوضى حالة جديدة من النظام وتفرض
أمراً واقعاً يكون هدفه الرئيسي عادة اسقاط النظام السابق".
وبدا
أن واشنطن صارت على قناعة بأن الأنظمة السياسية بالمنطقة بما فيها الحليفة لها قد
فقدت صلاحيتها وفائدتها، وباتت عبئاً على المصالح الأمريكية أكثر منها عوناً.
طالبت
واشنطن الأنظمة السياسية في المنطقة بإجراء إصلاحات سياسية واقتصادية واجتماعية من
أجل تطبيق المزيد الحريات والممارسات الديمقراطية، ومنح مؤسسات المجتمع المدني وقوى
المعارضة مزيد من الحرية للعمل، وبدأت تضغط عليها من أجل تطبيق ذلك، وأطلقت «مبادرة
الشراكة مع الشرق الاوسط» المعروفة اختصاراً بــ «ميبي» لمساعدة
المنظمات الأهلية في المنطقة، وقد تم افتتاح عدة مكاتب إقليمية في الوطن العربي، لخلق
ذراع لها داخل المنطقة.
ويشير إلى ذلك الكاتب الاميركي
والضابط السابق في وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية "فيليب اجي" حين
يكشف الغطاء عن ثلاثة أشكال تستخدمها الوكالة لاختراق منظمات المجتمع المحلي في البلدان
العربية خاصة، فالشكل الأول هو دعم وتمويل منظمات قائمة بالفعل لمحاولة التاثير
عليها لاتخاذ مواقف تخدم السياسات الأمريكية وتتماشى معها، والشكل الثاني هو التجنيد
الاستخباراتي لعدد من الرموز السياسية للبلد المستهدف، وتمويلهم لصناعة واجهات
منظمات مجتمع مدني ترفع شعارات التغيير السياسي وحماية الأقليات الدينية والعرقية
وتمكين المرأة والشفافية والدفاع عن الحريات وحقوق الانسان وغيرها من الشعارات
للتلبيس على الناس بوحي من الأجندات السياسية الأمريكية والتسويق لها على نطاق واسع،
أما الشكل الثالث هو اقامة مؤتمرات دولية واشراك منظمات الدول العربية التي ترفع
شعارات حقوق الانسان في بلدانها "دعم معنوي"، وتوظيف القائمين على تلك المنظمات
كمستشارين وأكاديميين في مؤسسات أمريكية ودولية بهدف اعطائهم مواقع مؤثرة في الرأي
العام ببلدانهم، وتوجيههم بشكل غير مباشر في خدمة المصالح الاميركية بتحويلهم الى
طابور خامس ضد مجتمعاتهم وأوطانهم باستغلال قناعاتهم الشخصية الممزوجة بمصالحهم الخاصة.
وها
هو التاريخ يكرر نفسه، فكما استغلت الامبراطورية البريطانية رغبات وطموحات الشعوب العربية
في جمع العرب تحت راية واحدة في مواجهة خطط التتريك العثمانية، ودعتهم للتكتل خلفها
لمواجة الدولة العثمانية، فكانت بداية فكرة انشاء الجامعة العربية، أيضا تلاقت الدعاوى
الأمريكية المزيفة من أجل الحريات والديمقراطية مع آمال وطموحات شعوب المنطقة نحو الحرية
والتخلص من ظلم واستبداد النظم الحاكمة – رغم اختلاف المصالح والاهداف والنوايا –
فكما أرادت بريطانيا تفجير الدولة العثمانية من الداخل أرادت الولايات المتحدة الأمريكية
تفجير المنطقة من الداخل.
هنا
نميز بين موقف فريقين داخل دولنا العربية وتحديداً في معسكر المعارضة:
الأول: لا يجد غضاضة من الاستفادة من الضغوط
الأمريكية والاستعانة بها لمواجهة استبداد الانظمة الحاكمة، فما دمنا لا نستطيع
بمفردنا التخلص من الاستبداد فلا مانع من الاستعانة بصديق.
وهذا الفريق ستجده الأكثر طمعاً في الوصول
للسلطة، ولذلك يتغاضى عما يذكر حول الأهداف الحقيقية للولايات المتحدة الأمريكية، ويفضل
أن يتعامل معها من خلال الظاهر والنوايا الطيبة، ولذا تجده على علاقات جيدة أو ليس
لديه موقف معاد حقيقي من الولايات المتحدة، وعلى استعداد للتعاون معها، أن لم يكن
يتعاون بالفعل، ومن هذا الفريق (تنظيم الإخوان المسلمين – بعض الأحزاب الليبرالية).
الثاني: يتشكك كثيراً في الأهداف الأمريكية،
ويدرك أن اللعبة السياسية لا يصلح التعامل معها بالنوايا الطيبة، ورغم معارضته الشديدة
وربما تكون أكثر من الفريق الأول للأنظمة المستبدة الا أنه يرفض الإستقواء بالخارج،
ويرى أن نيل الحرية هو تطور مجتمعي ونتاج نضال شعبي وحضاري.
وهذا الفريق، طامح أيضا للوصول الى السلطة،
ولكنه صاحب تجربة سيئة ولديه موقف سلبي من السياسات الأمريكية، وليس على علاقة
جيدة ولا يتعاون معها، وليس على استعداد للتفاعل معها، ومن هذا الفريق (التيارات والاحزاب
القومية والاشتراكية).
أدركت
الأنظمة السياسية أن مآل ما تريده واشنطن هو نهايتها لو تحقق؛ فكان رفضها – النادر-
للمطالبات الأمريكية، وتذرعت في ذلك بحجج السيادة والاستقلال الوطني!!، والخصوصية
وضرورة اتباع منهج التدرج في إجراء تلك الاصلاحات، وهي كلها كلمات حق أُريد بها باطل؛
فكثيراً ما أُهينت السيادة وأُنتهك الاستقلال حين لم يكن ذلك يهدد بقاء هذه الأنظمة
على عروشها.
وبدا
أن الإدارة الأمريكية عازمة على المضي في مخططها؛ وذلك من خلال اتصالها بمؤسسات المجتمع
المدني في تلك الدول وتقديم الدعم لها مادياً ومعنوياً، بالاضافة إلى الاتصال بقوى
المعارضة وتقديم الدعم لها.
وبالطبع
كانت جماعة الإخوان المسلمين جاهزة وتقدم نفسها على أنها أكبر قوى المعارضة تنظيماً
وتأثيراً في العالمين العربي والاسلامي بما لها من تواجد مؤثر بين صفوف الجماهير،
وتاريخ صراعي مع أنظمة الحكم.
من
جديد تتلاقى المصالح، وحين تلتقي المصالح لا تسأل عن القيم والمبادئ، فكلها أمور لا
اعتبار لها أمام لغة المصلحة .. وهذا ديدن الجماعة ومنهجها .. فهي تنظيم عملي .. برجماتي
لأقصى مدى .. يطوع كل شئ ويوظفه لخدمة مصالحه وأوله الدين، ودائماً ما يسعى للتحالف
مع الأقوى وتقدم خدماتها لمن تراه يحقق مصلحته مهما تضارب ذلك مع المصلحة العامة والوطنية؛
فقديماً تحالفت الجماعة مع الانجليز، وتارة مع الملك، وتلقت الدعم المادي من هذا
وذاك.
فبينما
كان المصريون يهتفون لفاروق "ويكا يا ويكا هات أمك من أمريكا" تنديداً
بالسلوك المستهتر للأسرة المالكة ممثلة في "نازلي" وولدها، كان
"البنا" يكتب مقالاً عن الملك فيصفه بأنه "ضم القرآن إلى قلبه ومزج
به روحه"، وأن صلاح المسلمين في كل الأرض سيكون على يديه "، وأكبر الظن
أن الأمنية الفاضلة ستصير حقيقة ماثلة، وأن الله قد اختار لهذه الهداية العامة
الفاروق، فعلى بركة الله يا جلالة الملك ومن ورائك أخلص جنودك"، لاحظ تسميته
بالفاروق تشبيها بالفاروق عمر رضي الله عنه.
في
نفس العام طالب مصطفى النحاس بالحد من نفوذ الملك الغير دستوري على مؤسسات الدولة
وخرجت جموع المصريين تهتف "الشعب مع النحاس"، فخرجت مظاهرات إخوانية
تهتف "الله مع الملك"، وياله من هتاف يصنع طاغوتا بذاته.
وفي
1938: الشيخ "حسن البنا" يصف فاروق بأمير المؤمنين مباشرة في مقال
بعنوان "الفاروق يحيي سنة الخلفاء الراشدين" مكررا التشبيه بالفاروق عمر
ضمنياً.
وفي 1946: جاء "إسماعيل صدقي" صديق
بريطانيا للوزارة رغم أنف الحركة الوطنية، فهو الرجل الذي قتل الطلاب بالرصاص في
مظاهرات1930 واشتهر بصداقته للصهاينة وعلاقته ببلفور شخصياً، فوقف القيادي الطلابي
الإخواني "مصطفى مؤمن" في جامعة القاهرة في مؤتمر تأييد لصدقي يقول
"واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد، وكان رسولا نبيا"، صدق
الله العظيم وكذب من وضع الآية في غير موضعها.
في
1952: قبيل الثورة والبلاد تغلي زار المرشد "حسن الهضيبي" الملك مؤكدا
ولاء الجماعة وبعدها عن كل القوى الثورية المناهضة له كما جاء في توقيعه في سجل
التشريفات بتاريخ ۲٥/٥/۱٩٥۲م بعبارته "نرفع فروض الولاء للملك المفدى ونستنكر
الصيحات التي تعالت ضد أعتابكم السامية، ونؤكد بعد الإخوان المسلمين كل البعد
عنها" .. هذا هو الفصيل الذي ادعى أن ثورة يوليو كانت ثورته.
بعد
قيام ثورة يوليو 1952: اعتبرها الإخوان ثورتهم فوصفوها بالثورة المباركة، وظهر
والد حسن البنا لأول مرة منذ اغتيال ابنه في المركز العام للجماعة، وصعد إلى
المنبر وخطب في الحضور قائلاً: " أيها الإخوان اليوم تحققت رسالتكم،انه فجر
جديد بالنسبة لكم، ويوم جديد للأمة، فاستبقوا الفجر أيها الإخوان"، وبعد أن
أجهض الضباط الأحرار مخطط الإخوان في سرقة الثورة حدث الصدام بين الطرفين.
وتهمش الإخوان
في العصر الناصري، ولزموا حاشية ملوك النفط وأمرائه، يأتمرون بأمرهم ويحنون رؤوسهم
طاعة، ويقومون بالخدمة المطلوبة من أولياء أوليائهم في واشنطن.
في 1971: شهر عسل جديد بين الإخوان والسلطة
ممثلة في "السادات" وبوساطة من "فيصل بن عبد العزيز" بعد لقاء
قيادات الخارج برئاسة "سعيد رمضان" وقيادات الداخل برئاسة "عمر
التلمساني" في استراحة جناكليس، والتي أوجز التلمساني فحواها ولخص علاقتهم
بالسادات بقوله "تقدم مني الكلام عن موقف السادات من الإخوان المسلمين، قلت
إنه أخرج الإخوان من المعتقلات، وأنه ترك لهم جانباً كبيراً من الحرية في التنقل
وإقامة الاحتفالات الإخوانية في المناسبات الدينية، وقد استقبل الإخوان كل ذلك
بالحمد والثناء"، هكذا رأوا السادات.
في 2004: المرشد "مهدي عاكف" في برقية
لمبارك خلال رحلة علاجه الأولى بألمانيا " في هذا الوقت الذي تواجه فيه مصرُ
وأمتُنا العربيةُ والإسلاميةُ تحدياتٍ كبيرةً تستهدف أمنَها واستقرارها وسلامتها،
والتي تحتاج إلى يقظةِ وانتباهِ وتضافرِ جميع القوى وتكاتفِ كلِّ الجهودِ، نسألُ
اللهَ تعالى أن يمنَّ على سيادتِكم بالشفاءِ العاجلِ، وأن يُتمَّ عليكم نعمةَ
الصحةِ والعافيةِ، وأن تعودوا إلى مصر وأنتم في خيرِ حالٍ، وأن يهيِّئ اللَّهُ
لكُم ولمصرَ وللأمةِ العربيةِ والإسلاميةِ السلامةَ من كل سوءٍ.. مع قبول وافرِ
التحيةِ وفائقِ الاحترامِ" ولا يقولن قائل أن هذا نبل، فهل بارك الإخوان لكل
من شفاه الله ليباركوا للطاغية بالشفاء؟ من الإسلام عدم التشفي في مرض ولكن ليس
منه اتخاذ المرض وسيلة للتقرب من السلطان.
في
2005: في حوار له مع مجلة آخر ساعة لم تكذبه الجماعة، أعلن المرشد العام
"مهدي عاكف" تأييد الجماعة لترشيح مبارك لولاية جديدة، وتمنى أن يلتقي
به ويتحدث معه.
كما
كشف "هيثم أبو خليل" مدير مركز "ضحايا" لحقوق الإنسان في
الاستقالة التي قدمها من الجماعة عن تفاصيل قال إنه تأكد منها حول: "تفاوض
قيادات الإخوان مع جهاز أمن الدولة في انتخابات برلمان 2005 علي نسبة معقولة من
التزوير تتيح لأفرادهم النجاح في حين يستخف نائب المرشد بعقولنا ويقول أنها
تفاهمات لجأوا إليها ليتيحوا مساحة أكبر للقوي السياسية بالتحرك".
في
2009: المرشد "مهدي عاكف" يعلق على ترشيح "جمال مبارك" بأن
عليه أن يترك قصر والده لو قرر ترشيح نفسه للرئاسة، بما يعني أنه لا مانع لديهم من
حيث المبدأ، ولو كان موقفهم تغير بعد انتخابات ۲۰۱۰
بعد أن نقض النظام اتفاقه معهم في توزيع
مقاعد مجلس الشعب، فقال المرشد السابق أن ترشيحه مرفوض بالثلاثة.
في
2010: المرشد العام الدكتور "محمد بديع" في برنامج العاشرة مساء يقول
"مبارك أب لكل المصريين، والمصريين عاوزين حقهم من أبوهم" في كلمة صادمة
للرأي العام وقتها.
والآن
رسا العطا على العم سام، فالعلاقات بينهما قديمة، فلا يخفى على الجميع تلك الاتصالات
التي كانت تتم على قدم وساق في السنوات الخمس الاخيرة بين الجماعة والولايات المتحدة
الأمريكية، فلم يزر أي دبلوماسي أمريكي أو أوروبي مصر إلا وقابله وفد من جماعة الإخوان،
وهو ما أثار حفيظة النظام المصري أكثر من مرة، وتسبب في جفاء واضح بين إدارة بوش الابن
ونظام مبارك.
وهكذا
مدت واشنطن خطوط اتصال بقوى المعارضة في دول المنطقة، وبدأت تمهد لتنفيذ مخططها،
وفي هذه الأثناء انفجرت موجة الغضب في تونس ضد نظام الرئيس بن علي، وتتابعت الأحداث
بشكل دراماتيكي مذهل، فاجئ الجميع بما فيهم من صنعوا الأحداث أنفسهم، فانفجر الغضب
في مصر وليبيا واليمن وسوريا، وبات الجميع مهدد بمواجهة ذات المصير وإن كان بدرجات
وتوقيتات متفاوتة.
بالطبع،
المفاجئة أربكت الحسابات وخلطت الأوراق لدى الجميع، وتطلب الأمر وقتاً لإعادة التفكير
فيما حدث!! فالأسباب مفهومة ولكن التوقيت والآلية والنتائج كانت غير متوقعة.
وكما
هو في لحظات الأزمة والمفاجئة تأتي تصرفاتنا الأولية فطرية عفوية بعيدة عن كل فنون
التكتيك والمغامرة، أتت ردود أفعال جميع القوى، فالكل مأخوذ بالمفاجأة وتطورات الأحداث.
فالولايات
المتحدة الأمريكية فضلت التريث لاستيضاح ما يحدث، فربما كانت تعد لذلك، ولكنه حدث دون
إذن منها، ولا في التوقيت الذي تريده ربما، وليس لديها لأول مرة معلومات كافية عما
يحدث وعما سيكون، وهو ما جعلها مرتبكة مترددة، بطيئة في ردود أفعالها.
هكذا
كان الجميع بما فيهم القوى الثورية في الشارع، كانت الأمور تتطور ساعة بعد ساعة
دون إعداد مسبق، لم يعلم أحد ما هي الخطوة التي تتخذ غداً، ما عدا قوة واحدة كانت
تعلم جيداً ماذا تفعل، ومتى تفعل وهي جماعة الإخوان المسلمين .. راقبت الأوضاع عن
كثب .. واتبعت تكتيك دائما ما تمارسه وهو الظهور أمام الجماهير بمظهر المعارض الشرس،
وفي الخفاء حمل وديع مع القوة الحقيقية الحاكمة .. وفي ذات الوقت تسعى لاستغلال
قوى المعارضة الأخرى حتى التي تعارضها ايديولوجيا لتأجيج الغضب الشعبي .. حتى إذا
ما أتت لحظة الانفجار كانوا أمام السلطة الحاكمة حليف مطيع، وأمام الجماهير المفجر
الرئيسي للأحداث.
وهو
ما حدث، في البداية أمنت نفسها خوفا من بطش النظام ورفضت رسمياً المشاركة في مظاهرات
25 يناير2011، ومعها عدد من قوى المعارضة التقليدية الكرتونية، وما أن لاحت في الأفق
بوادر انتصار الثورة انضموا لها وركبوا الموجه، ولكي يكسبوا ثقة شباب الثورة وصناعها
الحقيقيين، تظاهروا بمد أيديهم للجميع، واستكانوا خلف الثوار، وأخفوا راياتهم الخضراء
المميزة لهم، وصمتوا عن ترديد شعاراتهم طوال أيام الثورة.
لكن
صاحب الطبع لا يتغير، فحين لوح نظام مبارك ببعض الغنائم والتنازلات، ولأنهم ليسوا أصحاب
مبدأ، ولا يهمهم سوى المصلحة الخاصة والسلطة، سارعوا هم وبعض عناصر المعارضة الكرتونية
للتفاوض على ما ظنوه غنائم أو عطايا، حين وعدهم عمر سليمان بالسماح لهم بتأسيس حزب
سياسي وجعل الجماعة التي ظلت محظورة قانونا لسنوات جماعة شرعية، مقابل انسحابهم من
الميدان وتخليهم عن الثورة وشق وحدة الصف في الميدان.
وعلى أثر ذلك كشف عضو في
جماعة الإخوان المسلمين المصرية الحقيقة عندما قال أن أسباب استقالته من الجماعة تتعلق
بصفقة عقدتها قيادات من الجماعة مع عمر سليمان، وجاء في نص الاستقالة: "عدم
اتخاذ إجراء صارم وحاسم ضد أعضاء من مكتب الإرشاد ذهبوا إلى لقاء سري مع اللواء
عمر سليمان نائب رئيس الجمهورية السابق أيام الثورة، وهو لقاء آخر غير اللقاء الذي
حضره كثير من القوى الوطنية والذي خصهم فيه سليمان بالتفاوض من أجل إنهاء المشاركة
في الثورة مقابل حزب وجمعية".
هنا
لابد من وقفة للإنصاف، حين أتحدث عن موقف جماعة الإخوان المسلمين أثناء الـ 18
للثورة .. أنا اتحدث عن التنظيم والقادة والكوادر بالجماعة، وليس كل من هو منتمي
للتنظيم أو متعاطف مع أفكاره ومبادئه؛ أؤكد على ذلك لأنني رأيت شبابا ينتمي
للتنظيم أو متعاطف معه لا يقل حماسة او ثورية عن باقي شباب الثورة، ومنهم من ضحى
بدمه من أجل الثورة، وكثيراً ما كنت أوعول على هؤلاء في جعل هذه الجماعة أكثر
وطنية وأكثر إعلاءً للمصلحة الوطنية العامة على مصلحة التنظيم، ولكن للأسف لازال
مبدأ السمع والطاعة عائقا منيعا أمام حدوث هذا، وفي ذات الوقت عاملا جوهريا في انهيار
الجماعة.
نعود
لمسارنا..
ما
أن رحل مبارك وحل الحزب الوطني، وخلت الساحة السياسية في مصر من قوة سياسية حاكمة منظمة،
حتى عاد الإخوان المسلمين إلى أسلوبهم الانتهازي؛ كان جل همهم في البداية تفتيت
قوى المعارضة الضعيفة أصلاً، والقفز على السلطة بأسرع ما يمكن قبل أن تتمكن القوى الثورية
الحقيقية من شباب الثورة من تنظيم أنفسهم في كيان أو كيانات سياسية قوية على أرض الواقع،
وقبل أن تفرز الثورة قادتها الحقيقيين.
هذا
جعلهم على استعداد للتحالف مع الشيطان، فالفرصة سانحة الآن لتحقيق حلم السلطة والتمكين
الذي سعوا اليه منذ سبعين عاماً وربما لن تتكرر الفرصة مرة أخرى، وكعادتهم سعوا
للتحالف مع القوي بصرف النظر عن المبادئ والقيم والمصلحة الوطنية العامة، فكان هذا
القوي –آنذاك- هو المجلس العسكري الذي تولى أمر إدارة المرحلة الانتقالية.
ومرة
أخرى تتلاقى المصالح، فزواج المصلحة بين جماعة الإخوان
المسلمين والمجلس العسكري لا
تخطئه عين؛ أراد المجلس العسكري أن يتعامل مع قوة مؤثرة يعرف الكثير عنها، بدلا من
قوى متشرذمة لا يعرف عنها شئ، قوة يمكنه – هكذا تصور- أن يستغلها ويطوعها لتحقيق أهدافه،
وأهمها تدجين الثورة، والوقوف بها عند تنحي مبارك، والتخلص من نجله جمال ورجاله،
ثم إقناع الشارع بأن هذا هو منتهى ما تطمح له الثورة؛ بهدف أن يستكمل نظام مبارك
دوره في حكم البلاد برعاية المجلس الذي هو جزء أصيل وصاحب مصلحة أكيدة في بقاء هذا
النظام، وهذا ما عملت على تحقيقه الصياغة الدستورية التي جاءت بها لجنة المستشار/
طارق البشري.
ولأن
المجلس العسكري يدرك أن قواعد النظام العالمي في عام 2011 تختلف كثيرا مثيلتها في
1952 بما لا يرحب ولا يشجع بقيام نظام عسكري في مصر، كما أن جل القوى السياسية المؤثرة
في مصر ستقاوم بضراوة مثل هذا الاتجاه، فيبدو أنه كان يعد لنموذج أقرب ما يكون بالنموذج
التركي؛ حيث تحكم المؤسسة العسكرية بصورة غير مباشرة، ووفق للقواعد التي تضعها،
وتراقب عن كثب تنفيذ ذلك، ويكون لها من الأدوات ما يمكنها من ضبط الأمور في حال
خروجها عن نصابها.. هكذا تصور مجلس المشير طنطاوي.
وفي
هذا الإطار، بدا أن المجلس العسكري لا يمانع في أن يستغل طمع جماعة الإخوان في القفز
السريع على السلطة، واستعدادهم لتقديم عظيم التنازلات في المقابل، والقبول بشروط اللعبة
التي يضعها، وفي ذات الوقت يكونوا ستاراً شرعياً مقبولاً في الشارع المصري بما لهم
من شعبية لتمرير أهداف وسياسات المجلس.
أُعطى
الميكروفون لجماعه الإخوان، وسمح لهم ببناء المقار واللجان والمراكز، ومُنحوا
مساحات إعلامية بغرض فرضهم علي الشعب وإظهارهم بمظهر أنهم المتحدث باسم الشعب
وبأنهم الممثل الشرعي للشعب والتي تعمل لمصلحتهم.
وبالنسبة
لجماعة الإخوان المسلمين؛ كانت تجربتهم مع مجلس قيادة ثورة 23 يوليو 1952 لازالت
حية في الأذهان، ويبدو أنهم تعلموا الدرس؛ فتجنبوا الاصطدام بالمجلس العسكري قبل
أن يتمكنوا من السلطة، وقرءوا جيدا ما يخطط له المجلس العسكري، ورأوا أن ما يقوم
به المجلس يتوافق تماما مع هدفهم في القفز على السلطة، لذا قرروا أن يتبادلوا الأدوار
مع المجلس؛ فبدلا من استغلاله لهم يستغلوه هم في تحقيق أهدافهم، وكانت رؤيتهم للساحة
المصرية، والاقليمية والدولية، بالاضافة الى امكانياتهم المادية والتنظيمية ما
يؤهلهم لذلك.
هكذا، أدارت الجماعة اللعبة مع المجلس، وأظهروا في
البداية كثير من التوافق والتفاهم مع سياسات وقرارات المجلس، وتخلوا عن ثوار الميدان
وكثير من القوى الثورية، وشقوا وحدة الصف التي كانت مصدر قوة الثوار، وتركوا الثوار
بمفردهم في الميدان يقاتلون من أجل استكمال الثورة وتحقيق أهدافها.
استند
هذا التحالف غير المقدس ضد الثورة إلى توافق المصالح بين العسكر والإخوان في
الدفاع عن مصالح وأسس مجتمع واقتصاد فترة مبارك، لا يهمهما كيف أدت تلك الأسس
لإفقار الشعب المصري ونهب ثرواته. لقد توافق كلاهما على أهمية تبريد الثورة تمهيداً
لقمعها إذا لزم الأمر.
ولهذا الغرض، تم الدعوة لاستفتاء 19 مارس المشئوم،
وحشدت الجماعة وسائر قوى تيار الاسلام السياسي لصالح التصويت بنعم، مستغلين في ذلك
كل شئ، لم يتورعوا –كعادتهم- عن تزييف وعي الناخبين البسطاء بشعارات دينية زائفة،
من قبيل "من يقول نعم يدخل الجنة ومن يقول لا فمصيره النار"، ومنهم من أطلق
على الاستفتاء "غزوة الصندوق".
اعتبر الإخوان والعسكر زيفاً أو هكذا صدّر إعلامهم
بأن تصويت الأغلبية بنعم يعد موافقة من الشعب المصري على النهج الذي يتبعه المجلس العسكري
في إدارة المرحلة الانتقالية. ورغم صراخ صناع الثورة الحقيقيين في كافة ميادين مصر
بأن ما يحدث يجهض الثورة، ويؤدي بالبلاد الى الفوضى، كان طمع الإخوان والعسكر في السلطة
فوق أي مصلحة أخرى.
وبالفعل،
حصلت جماعة الإخوان المسلمين على الأغلبية النسبية في انتخابات مجلس الشعب، وبسبب
شرهها للسلطة، وكعادتها لا تفي بوعد ولا تلزم عهد، لم تلتزم بنسبة 30% ثم 40% للمنافسة
على مقاعد المجلس بل نافست على 100%، ثم استحوذت الجماعة على المفاصل الرئيسية والمؤثرة
في المجلس، والأكثر من هذا، استماتت للاستحواذ على تشكيل اللجنة التأسيسية للدستور.
ظهر
رد الإخوان الجميل للمجلس العسكري في مطالبة قيادات الجماعة الجماهير بعدم الخروج
للتظاهر، في حين أنهم يعلمون أن القوة الوحيدة السلمية التي تمتلكها تلك الشعوب هو
الخروج والتظاهر فهم يحاولون حرمان تلك الشعوب من سلاحهم الوحيد بدعوي الحفاظ علي الإنتاج
وعلي الأمن، وكأن عجلة الإنتاج موجودة في ميدان التحرير.
وفي هذا السياق، جاء تأييدهم لوزارة الجنزوري،
رغم معارضة كل القوى الوطنية والثورية له وقيام الشباب بالاعتصام أمام مقر رئاسة
الوزراء لمنعه من دخوله، بل وتأييد الإخوان لقمع الاعتصام أمام مجلس الوزراء
والتنكيل بالثوار بنات وبنين وزيادة قائمة قتلى وجرحى الثورة.
صمت
الإخوان وأغمضوا أعينهم عن كافة الممارسات القمعية ضد الثوار في ميادين مصر، بل
واحتكوا أحيانا بالثوار ونعتوهم بالبلطجة، ووصفوا سعيهم لاستكمال الثورة وحمايتها
لها بأنها محاولة لمنع الثورة من تحقيق أهدافها المتمثلة في وصولهم إلى مجلس
الشعب!.
خلال
كل ذلك، كانت الولايات المتحدة الأمريكية تراقب عن كثب ما سوف تسفر عنه اللعبة، وظهر
أهمية اللجوء إلى خدمات جماعة الإخوان المسلمين للعمل لصالح الأهداف الأمريكية، من
خلال استخدام سلاح الدين في توجيه تلك الشعوب والجماهير وتوجيه قوتها وشحنتها وغضبها
في اتجاه لا يضر المصالح الأمريكية والإسرائيلية.
وجاءت
جميع تعليقات وتصريحات المسئولين الأمريكان عن الوضع في مصر لتؤكد على ضرورة إتباع
مسار التحول الديمقراطي، وسرعة الانتقال من الحكم العسكري إلى الحكم المدني، ليس
حرصا على الصالح المصري، فتاريخ الولايات المتحدة يشهد أنها لا تتورع عن وأد حركات
الاستقلال، وتأييد أبشع الديكتاتوريات لو وجدت في ذلك مصلحة لها، ولكنها في الحالة
المصرية الراهنة تدرك أن أدوات الديمقراطية مثل صناديق الانتخاب سوف تكون في صالح أصدقائها
من " جماعة الإخوان "، فكثيراً ما تدار العملية الديمقراطية بأبشع صورة
الديكتاتورية (ولهذا حديث آخر مفصل).
ويمكن
التعرف على ردود فعل الجانب الأمريكي إزاء فوز جماعة الإخوان في انتخابات مجلس
الشعب من خلال تصريحات المسئولين الأمريكان عقب زياراتهم المتتالية لمقر حزب
الحرية والعدالة، ومقر المرشد العام؛ حيث صرح "جون ماكين"رئيس مجلس
إدارة المعهد الجمهورى الدولى، وهو أحد المنظمات الغير حكومية الأمريكية التى كانت
تعمل فى مصر بأنه كان قلقاً عندما سمع نتائج الانتخابات التشريعية فى مصر، ولكن
بعد زيارته والسيناتور "ليندسى جراهام" للإخوان المسلمون فى مصر اكتشف
أن الجماعة على صورة مختلفة تماماً غير التى كان يعرفها. ودعا الإدارة الأمريكية إلى
دعم الإخوان المسلمين، وفي نفس الوقت دعا الإخوان المسلمين لأن يضعوا على قائمة
أولوياتهم وضع حل عادل ودائم للصراع العربى الإسرائيلى، والتوفيق بين أيدولوجيتهم ومسؤولياتهم
الجديدة، وتفهم المصالح الأمريكية فى المنطقة.
بدأ القلق يتسرب إلى
أعضاء المجلس العسكرى بالعلاقات التى بدأت فى التوطد والإزدياد بين الولايات
المتحدة وجماعة الإخوان، من هنا كان لابد من أن يُذكّر المجلس العسكرى الجميع بأنه
هو الحاكم الأصيل، رغم أنف الأغلبية التى أتى بها الشعب من خلال صناديق الإقتراع؛ فهو
من يسيطر على أجهزة الأمن من جيش وبوليس ومخابرات ...الخ، وكذلك أجهزة الدولة
البيروقراطية والسلطة التنفيذية من خلال رئيس وزرائه ومن خلال اللواءات مندوبيه
المباشرين فى كل وزارة.
وأراد المجلس أن يثبت ذلك
عملياً؛ فقام العسكر بمداهمة مراكز الجمعيات الغير حكومية التابعة للولايات
المتحدة، والقبض على العديد من الموظفيين الأمريكيين الذين يعملون فى هذه المنظات،
وكذلك العديد من المصريين وجنسيات أخرى، وتم تقديمهم للمحاكمة.
وعلى الفور بدأت زيارات
لمسئولين عسكريين رفيعى المستوى للمجلس العسكرى، واتصالات سياسية رفيعة المستوى
بحزب الحرية والعدالة، منها زيارة السفيرة الأمريكية للمركز العام للإخوان
المسلمون بالمقطم يوم 18 يناير 2012، و كذلك الزيارات المتتالية لوفود رفيعة
المستوى من الإدارة الأمريكية والكونجرس لقيادات حزب الحرية والعدالة وعلى رأسهم
السيناتور جون ماكين، ومايكل بوزنر مساعد وزير الخارجية، والسيناتور ليندسى جراهام،
وغيرهم الكثير من الوفود الأمريكية، والباحثيين الأكاديميين أو من خلف هذه المهنة،
وهم فى الحقيقة غير ذلك، ثم انفجرت القنبلة الكبرى عندما أعلنت وزيرة الخارجية الأمريكية
"هيلاري كلينتون" أمام الكونجرس يوم الأربعاء 29 فبراير الماضى أن قضية
الـ 19 أمريكيا المتهمين فى قضية التمويل الأجنبى فى مصر سوف تحل خلال أيام بسيطة
.. رغم أن القضية في عهدة القضاء الذي لم يبت فيها بعد، و بالفعل بعد أيام قلائل
تم الإفراج عن المتهمين الأمريكيين، بعد أن حطت طائرة أمريكية عسكرية دون موافقة
برج مطار القاهرة أو حتى وزارة الدفاع أو المجلس العسكرى ذاته، وهو ما يمثل انتهاك
صارخ وفاضح لسيادة وكرامة مصر والمصريين.
ولم تكن جماعة الإخوان
المسلمين بعيدة عما حدث، فقد فضح تآمرها "جون ماكين" ورموز بالكونجرس الأمريكى
حين خرجوا يشيدون في بيان رسمي صادر عن الكونجرس بأداء جماعة الإخوان المسلمين وذراعها
السياسي "حزب الحرية والعدالة" في حل القضية، منوهين بأن البيان الذي
أصدرته في 20 فبراير ساعد على حل الأزمة.
مرة أخرى أكرر لا تزال الجماعة
تسير على نفس نهجها لاهثة خلف مصالحها الضيقة على حساب المصالح العليا للأمة، وقررت التحالف مع الأقوى، ولو حتى على حساب كرامة وسيادة
مصر.
لقد
قدر الإخوان أن مستوى نفوذهم وكذلك تأييد الولايات المتحدة لهم (حيث يرونهم أقدر
على مواجهة الثورة فى الشارع من المجلس العسكرى الذى يمثل القمع وسيلته الأساسية)
يؤهلهم للمطالبة بزيادة نصيبهم فى الصفقة بوضع موطئ قدم لهم فى السلطة التنفيذية
أيضا بجانب السلطة التشريعية، وبالتالي تخلت الجماعة عن حذرها في تجنب الاصطدام
بالمجلس العسكري، وبدأت الاحتكاكات والمناوشات بين الطرفين، وصارت واضحة للعيان من
خلال الصدام بين رئاسة مجلس الشعب الإخوانية المتمثلة في "الكتاتني"
ورئاسة الحكومة المصرية الممثلة في "الجنزوري"، تلك الحكومة التي أيدها الإخوان
رغم معارضة كل القوى الوطنية والثورية لها، وقيام الشباب بالاعتصام أمام مقر رئاسة
الوزراء لمنع الجنزوري من دخوله، بل وتأييد الإخوان لقمع الاعتصام أمام مجلس
الوزراء والتنكيل بالمعتصمين بناتا وبنين وزيادة قائمة قتلى وجرحى الثورة. وتحدث الإخوان
عن أن تلك الاحتجاجات الجماهيرية ما هى إلا محاولة لمنع الثورة من تحقيق أهدافها
المتمثلة فى وصولهم إلى مجلس الشعب!.
وفي
مارس 2012 أجرى رجل الإخوان القوي نائب المرشد العام المهندس "خيرت الشاطر"
زيارة إلى منزل المشير طنطاوي بصحبة المرشد العام للجماعة الدكتور "محمد بديع"
ورئيس حزب الحرية والعدالة خلال هذه الفترة الدكتور "محمد مرسي"، والأمين
العام للجماعة الدكتور "سعد الكتاتني"، وتقدم المهندس "خيرت الشاطر"
بطلب للمشير مفاده إقالة حكومة الجنزوري، ومنح القوى السياسية الفائزة في انتخابات
مجلس الشعب فرصة لتشكيل حكومة ائتلافية. وسعياً لطمآنة العسكري على وضعه خلال
المرحلة المقبلة طرح المهندس الشاطر على المشير رؤية الإخوان لدستور مصر الدائم.
ومن
جانبه وعد المشير بدراسة طلب الإخوان، وتوترت العلاقة بين المجلس العسكري وجماعة الإخوان
المسلمين على خلفية رفض العسكري طلب الإخوان بإقالة حكومة الجنزوري.
وفي
لعبة عض الأصابع بين المجلس والجماعة، لوحت الجماعة – تهديداً - بالدفع بمرشح
اخواني لرئاسة الجمهورية اذا استمر المجلس العسكري في نهجه، متهمين المجلس بالسعي
للهيمنة على السلطة وعدم ترك الحكم كما يتعهدون.
أصبح
واضحاً أن المجلس العسكري ضاق ذرعاً بالجماعة، وبأحكام قضائية حُل مجلس الشعب،
وأبطلت الجمعية التأسيسية للدستور، وكانت ضربة موجعة للجماعة، أوصلت العلاقة بين
الجماعة والمجلس لنقطة اللاعودة.
وعند
هذه النقطة، بدا وأن الأطراف جميعها خاسر، فلا الإخوان نجحوا في تحقيق ما هدفوا إليه
من تحالفهم مع العسكري، بل خسروا كثيراً من تعاطف الشارع المصري والقوى الثورية
معهم، كما أصبح المجلس العسكري ملوث اليد بدماء شباب الثورة، وفقد الكثير من مكانته
التي اكتسبها في بداية الثورة لدى المصريين، حتى الثوار ومن خلفهم الثورة أصابهم الإنهاك
جراء مقاومتهم أثار تحالف الإخوان والعسكر..
الكاسب
الوحيد من كل هذه الخسائر كان فلول نظام مبارك؛ نظموا صفوفهم بشكل جيد، اكتسبوا
ثقة في أنفسهم جعلتهم يتجرأوا على الترشح لمنصب رئيس الجمهورية، ويمثلوا تهديداً
حقيقياً على الثورة برمتها.. وحاولوا أن يستغلوا الموقف الذي وصل إليه المجلس
العسكري والإخوان ليقدموا أنفسهم للعسكر على أنهم حليف قوي وداعم وقابل بكل شروط
العسكري، ويمكن أن يحكم من خلف ستار العسكر، وفي هذا انقاذ للطرفين من بطش جماعة الإخوان
في حالة سيطرتهم على السلطة.
وأكبر
الظن أن المجلس العسكري لم يكن له مانع في استبدال فلول نظام مبارك بجماعة الإخوان؛
فهو يعلمهم جيداً، وربما كانوا أكثر ثقة لديه من الجماعة، ويضمن ولائهم له؛ لأنهم
بافتقادهم التأييد الشعبي ليسوا لديهم بديل سوى المجلس على عكس جماعة الإخوان
الذين استقووا بالتأييد الشعبي على المجلس العسكري. وبدأ المجلس العسكري يلاعب
الجميع وأولهم الإخوان؛ حين سمح بتمرير أوراق مرشحي فلول نظام مبارك عمر سليمان،
وأحمد شفيق، وعمرو موسى إلى اللجنة المشرفة على انتخابات الرئاسة.
هنا
أدرك الإخوان هول ما يمكن أن يلاقوه إذا ما نجح المجلس العسكري في المضي قدماً في
مخططه، وشعروا بأن حلم التمكين يتسرب من بين أيديهم بعد أن ظنوا أنه بات أقرب ما
يكون منهم.
وفي
هذه الأثناء، لاحت في الأفق ذكريات أزمة مارس 1954 بين جماعة الإخوان المسلمين
ومجلس ثورة يوليو 1952، حتى أن وسائل الإعلام بدأت تعيد تحليلها، وإمكانية تكرار
ذات السيناريو بين الإخوان والمجلس العسكري.
باتت
الجماعة في موقف لا تحسد عليه؛ فبعد أن خسرت ثقة القوى الثورية في الميدان، وخسرت
الكثير من رصيدها في الشارع المصري نتيجة مواقفها من الثورة وتحالفها مع العسكر،
وأدائها الهزيل والسئ في البرلمان كان لابد لها من الاستعانة بصديق، تقدم له كل ما
يلزم من ضمانات مقابل دعمها في مأزقها .. ومن يكون ذلك الصديق الذي يملك الدعم سوى
الأمريكان .. فكلاهما (الإخوان والأمريكان) يعرفان جيداً ماذا يريد كل منهما من
الآخر، والمقابل الذي يقدمه في سبيل ذلك، والطرفان لا مانع لديهما من دفع المقابل.
وأرسل
الإخوان المسلمين وفدا إلى الولايات المتحدة الأمريكية، التى يعرفون أنها تمسك
بأوراق قوة أساسية فى لعبة السلطة فى مصر للتفاوض، وتقديم الطمأنات والتنازلات،
والاستعانة بهم فى معركتهم على نصيبهم فى السلطة مع العسكر. وأمريكا بالطبع حريصة
على العسكر الذين يمثلون أحد أهم ركائزها فى المنطقة وليس فى مصر وحدها، وما تجربة
مشاركتهم فيما سمى بمعركة تحرير الكويت ببعيدة. وبصرف النظر عن حجم دورهم العسكرى
المباشر فقد كان دورهم فى تقديم التغطية السياسية للأمريكان هو ميزتهم الكبرى. كما
أن أمريكا أيضا حريصة على الإخوان ذوى الوزن الهام فى الشارع، مع مراعاة أنهم قوة
منحازة بقوة لليبرالية الاقتصادية وتقدم كل التطمينات الواجبة على أن كل دعايتهم
السابقة أيام كونهم فى المعارضة ضد إسرائيل لن تدفعهم حتى إلى المطالبة بتعديل
كامب دافيد، بل وتعهدت بعدم تنظيم استفتاء على كامب دافيد!.
كما أن هناك شخصيات
إخوانية تتلقى دورات تدريبية على السياسة والإدارة في الولايات المتحدة، وهناك
معاهد أمريكية تقوم بذلك التدريب، والإخوان يسافرون في أعداد قليلة جداً لا تتعدى
كل مجموعة أربعة أو خمسة أشخاص، وهذا قد يثير تساؤلات من يرون أن الولايات المتحدة
ضد الإخوان والمشروع الإسلامي، فكيف تساعد الإخوان وهي تعاديهم؟..
وأظن أن أصحاب تلك
التساؤلات لا يفهمون السياسة لأن الولايات المتحدة تبحث عن مصالحها الخاصة، ولو
حصلت عليها من الإخوان المسلمين فأهلا وسهلاً بهم، وقد عبر هنري كيسنجر وزير
الخارجية الأمريكية الأسبق عن ذلك لما تقابل مع وزير خارجيتنا السابق محمد العرابي
في اسطنبول، فيومها قال كيسنجر إن الولايات المتحدة لا مانع لديها من وصول الإخوان
للحكم، ما داموا وافقوا على الشروط الأمريكية، وهي أن يظل ممر قناة السويس مفتوحاً
كما هو، وأن تحافظ مصر على اتفاقيات السلام مع الكيان الصهيوني، وأن تظل الولايات
المتحدة المورد الرئيسي للأسلحة للجيش المصري، وأن يحتفظ الجيش المصري بعلاقاته مع
الجيش الأمريكي!!.
وعلى
ذات الموجه، كانت تركيا هناك ترصد تطورات الأوضاع، وتعد وتخطط وتهيئ البيئة لدور
تركي قوي ومهيمن في منطقة الشرق الأوسط، بعد أن يأست من تحقيق حلم الانضمام
للاتحاد الأوروبي .. وأرادت تركيا أن تستغل نظرة دول الربيع العربي لها باعتبارها
نموذجاً يحتذى؛ يجمع بين الدولة الحديثة والمرجعية الإسلامية في تدشين موقعها كقوة
اقليمية فاعلة.
وفي هذا السياق، لعب رئيس
الوزراء التركي رجب طيب أردوغان القادم من خلفية إسلامية دوراً مهما في ترتيب
التفاهمات الإخوانية الأمريكية لإزالة شكوك واشنطن من وصول جماعة الإخوان المسلمين
إلى الحكم في مصر، وقام بالاتصال بالإدارة الأمريكية لنقل رسائل طمئنة من الإخوان بشأن
وضع المنطقة في حالة فوز جماعة الإخوان المسلمين في الانتخابات البرلمانية
وتشكيلها حكومة في مصر.
وعلى أثر هذه الرسائل طلب
أردوغان من جماعة الإخوان المسلمين بإيفاد مسئول إخواني إلى واشنطن للتفاهم بشان
القضايا العالقة، وهو ما تم بالفعل في يوليو 2011، وتوجه كل من المهندس خيرت
الشاطر الرجل الحديدي في الجماعة والدكتور عصام الحداد مسئول ملف الاتصال الخارجي
بالإخوان بصحبة عنصر بالتنظيم الدولي للإخوان إلى واشنطن، وتم التفاهم خلال
الزيارة على أن تبقي مصر على جميع الاتفاقيات الدولية كما هي دون تغيير خاصة
"كامب ديفيد"، وكذلك الاتفاقيات الاستراتيجية بين البنتاجون والجيش
المصري والمخابرات العامة.
نجح اردوغان في نقل الرسائل
الإخوانية إلى الإدارة الأمريكية متعهداً على لسان الجماعة بالحفاظ على العلاقة
الاستراتيجية بين واشنطن والقاهرة. وأكد أردوغان للإدارة الأمريكية أن وصول شخص إخواني
إلى منصب رئيس الجمهورية في مصر من شأنه الحيلولة دون وصول تيار إسلامي أكثر تطرفاً
إلى سدة الحكم، مشيراً إلى أن وصول جماعة الإخوان المسلمين إلى سدة الحكم من شأنه
تشكيل حلف قوي في الشرق الأوسط يساعد الإدارة الأمريكية في حل أزمة طهران النووية،
والوصول الى صيغة لاتفاقية سلام بين الفلسطينيين والاسرائيليين؛ خاصة أن حماس
قادمة من خلفية اخوانية.
ودعا أردوغان المسئولين الأمريكيين الى الاعتماد
على المهندس خيرت الشاطر كصديق لهم في مصر، هذه الرسائل التي نقلها أردوغان إلى
واشنطن كان لها الفضل في ضغوط الإدارة الأمريكية على المجلس العسكري في عدم تدخله
في سير الانتخابات الرئاسية المصرية.
ويؤكد " د.عمرو هاشم
" الخبير بمركز الاهرام الاستراتيجي، أن الدور الذي لعبه أردوغان في
التفاهمات الأمريكية - الإخوانية، قائم على ثقة الطرفين في الوصول الى حل وسط
للقضايا محل الخلاف.
وأوضح هاشم أن خلفية أردوغان الإسلامية مكنته من
لعب هذا الدور؛ لتجربة واشنطن الجيدة مع دولة اسلامية كبيرة في المنطقة، مشيراً
الى أن ما وصلت اليه تركيا من تقدم جعل الأمريكان أكثر ثقة في قدرة الإخوان على
صياغة نظام سياسي في مصر شبيه بالنظام التركي مدعوم شعبياً، يمكن الولايات المتحدة
من صياغة استراتيجيات بعيدة المدى للتعاون مع القاهرة.
في
المقابل كانت رؤية الإدارة الأمريكية تتلخص في النقاط الآتية:
أولاً:
أن البديل عن الإخوان غير مضمون؛ فالعسكر لن يقبلهم الشعب، كما لن يقبل من هم
محسوبين على نظام مبارك.
ثانياً:
لن تغامر الولايات المتحدة الأمريكية بقدوم شخصية لا تضمن ولائها، ولا توجهاتها،
أو شخصية وطنية تجعل من صيانة السيادة المصرية، واستقلال القرار المصري خطراً على
المصالح والاستراتيجية الأمريكية في المنطقة على غرار جمال عبد الناصر.
ثالثاً:
أرادت واشنطن تغيير الصورة الأمريكية في ذهن رجل الشارع المصري والعربي، عن
مساندتها للأنظمة الديكتاتورية.
رابعاً:
تهدف الولايات المتحدة الأمريكية إلى أمركة الإسلام، من خلال تدجين تيارات الإسلام
السياسي بواسطة جماعة الإخوان، وتحويل نظرة العداء لأمريكا إلى نظرة تعاون وتحالف.
خامساً:
ترى الولايات المتحدة أن جماعة الإخوان لها وزن هام فى الشارع المصري والعربي، مع
مراعاة أنهم قوة منحازة بقوة لليبرالية الاقتصادية وتقدم كل التطمينات الواجبة على
أن كل دعايتهم السابقة أيام كانوا في المعارضة ضد إسرائيل لن تدفعهم حتى إلى المطالبة
بتعديل كامب دافيد، بل وتعهدت بعدم تنظيم استفتاء على كامب دافيد!.
وموافقة
ودعم أمريكي نكث الإخوان وعدهم بألا يترشحوا على منصب رئيس الجمهورية، وقدموا في
ذلك كثير من الأسباب؛ كان في مقدمتها هو ألا يستثير ذلك حفيظة المجتمع الدولي،
وتواجه مصر مصير حماس في غزة، وكانوا يصورون أنفسهم في ذلك بأنهم يضحون من أجل
مصر، كل ذلك ذهب أدراج الرياح، فلتذهب مصر الى الجحيم والمهم هو الجماعة، وأعلنوا
ترشيح رجلهم القوي نائب المرشد العام ورجل الاعمال خيرت الشاطر للمنافسة على
المنصب بعد أن حصلوا على الضوء الأخضر من الإدارة الأمريكية.
وهذا
ما يوضحه تصريح الدكتور "محمود غزلان" عضو مكتب الإرشاد بجماعة الإخوان
المسلمين والمتحدث الإعلامي باسم الجماعة الذي أكد فيه أنه كانت لدى الإخوان مخاوف
من تكرار حصار غزة في حال دفعوا مرشحاً منهم لرئاسة الجمهورية، إلا أنه عندما
تبددت المخاوف كان هذا أحد أسباب ترشيح الشاطر .. ما بدد المخاوف هو حصولهم على
موافقة الولايات المتحدة الأمريكية على هذا الترشيح.
وكان
الشاطر قد صدر بحقه أحكام عسكرية فى وقت سابق تحول دون إعطائه الحق فى ممارسة
حقوقه السياسية، إلا بعد انقضاء ومضى 6 سنوات على الحكم، باعتبار أنه لا يجوز الرد
قبل مضى تلك المدة، إلا أن المجلس العسكرى أصدر عفواً رئاسياً عنه فى وقت سابق.
واجه
هذا الحنث في الوعد سخط شعبي كبير، ومن جميع القوى السياسية بما فيهم تيارات
الإسلام السياسي، وبعض الشباب النقي ثورياً من جماعة الإخوان المسلمين ذاتها؛ وها هم
بعض من قيادات الإخوان قد أعلنتها صريحة بأن ما جرى يمثل صفقة بين الإخوان والأمريكان،
فهذا كمال الهلباوي المتحدث باسم الإخوان في أوروبا يعلن استقالته من جماعة الإخوان
المسلمين متهماً الجماعة بالتواطؤ مع الأمريكان، كما استنكر الشيخ وجدي غنيم أفعال
الجماعة.
وفي بيان أصدره الداعية
الكويتي -المصري الأصل- الشيخ "عبد الرحمن عبد الخالق" أدان فيه ترشح
خيرت الشاطر وقال فيه: "أصبت بالصدمة بعد أن علمت أن جماعة الإخوان المسلمون
في مصر ومرشدها العام قد أصدروا قرارا بترشيح المهندس خيرت الشاطر لرئاسة جمهورية
مصر، وذلك أن الجماعة قد عاهدت الأمة المصرية ألا يدفعوا بمرشح منهم للرئاسة، وهذا
الذي ذهبت إليه الجماعة إنما هو من باب الغدر وإخلاف الوعد والعهد .... أن ما
فعلتموه لا يجوز لمسلم السكوت عليه، فإنكم تمارسون السياسة باسم الإسلام، وأخطاؤكم
تقع بالضرورة على المسلمين جميعا، وفعلكم هذا يؤدي إلى انصراف الناس عن الإسلام
وتسويتهم بين مسلم يمارس السياسة وعلماني (لا ديني) يمارسها. وكل من أعطى صوته
لهذا المرشح سيكون داخلا في صفقة غدر وإخلاف وعد ونقض عهد".. وغير ذلك من
ردود الفعل الغاضبة من قرار الجماعة.
إلا أن الجماعة كانت
عازمة على المضي قدماً، فلا مصلحة تعلو فوق مصلحة الجماعة ولو كانت مصلحة مصر،
فحصولهم على منصب الرئيس كانت بمثابة طوق النجاة لهم، وإلا كان البديل نهاية
حقيقية للجماعة بعد أن خسروا كل شئ. وهذا يجعلنا نفهم دلالة تصرح المرشد السابق للإخوان
"محمد مهدي عاكف" حين قال "طظ في مصر"؟!!
وبذات
الحرفية التي عمل بها المجلس العسكري حين وضع بذور حل مجلس الشعب في قانون انتخاب
أعضائه لإنباتها وقت الحاجة، وضع بذور إبطال ترشيح الشاطر في قرار العفو عنه؛ فلم
يتضمن إعلان العفو ما يفيد أنه عفو شامل يتيح له ممارسة كل حقوقه السياسية.
وفي
إطار لعبة الكر والفر بين المجلس والجماعة، كانت الجماعة متحسبة لمثل هذا؛ فدفعت
بمرشح احتياطي –استبن- لها وهو الدكتور محمد مرسي، رئيس حزب الحرية والعدالة
الذراع السياسي للجماعة.
وسط
هذه الأنواء والعواصف، وألعاب السياسة وتحالفاتها القذرة كانت قوى الثورة الوليدة
تتشكل، تلملم جراح ما يزيد عن عام من عمر الثورة؛ تعرضت فيه هذه القوى لكافة أصناف
العنف المادي والمعنوي، ولكنها صمدت في الميدان، ولولا صمودها لأجضت الثورة في
عامها الأول، هذه القوى الوليدة النقية عانت من نقاط ضعف عديدة:
أولها: نقص الخبرة والتجربة السياسية، نتيجة
سياسات نظام مبارك الفاسدة، التي جعلت من ممارسة العمل السياسي مغامرة خطرة.
ثانياً: اندساس من يطلق عليهم نخبة مثقفة،
عواجيز المعارضة الكرتونية، وبعض الأشخاص ممن يجيدون ركوب أمواج السياسة .. ممن
يأكلون على كل الموائد بين صفوف هذه القوى؛ وكل هؤلاء استغلوا نقص الخبرة والطموح
لدى الشباب، مما أدى إلى تشتت وتمزق الصف داخل هذه القوى.
ثالثاً: نقص الامكانيات المادية البين لدى
قوى الثورة، وافتقارها لأي دعم من الداخل أو الخارج.
رابعاً: الضربات الموجعة التي تلقتها هذه
القوى على يد الحلف الشيطاني بين الإخوان والعسكر.
بكل
هذا الضعف خاضت القوى الثورية معترك الانتخابات الرئاسية الضخم والغير مسبوق،
ممثلين في مرشحين رئيسيين هما حمدين صباحي الذي مثل التيار الوطني ذو المرجعية الاشتراكية،
وعبد المنعم أبو الفتوح الذي مثل التيار الوطني ذو المرجعية الإسلامية.
وبنظرة
مدققة للوضع السياسي في مصر بعد إعلان القائمة النهائية لمرشحي الرئاسة يمكن أن نرصد
الآتي:
1. أن جماعة الإخوان المسلمين أدركوا أن الإعتماد
على رصيدهم في الشارع لكسب الانتخابات لم يعد مجدياً ولأسباب عديدة:
·
اهتزاز الثقة في الجماعة نتيجة ممارستها خلال الفترة
التي تلت الثورة وحتى لحظة الانتخابات الرئاسية.
·
ضعف مرشح الجماعة محمد مرسي بالمقارنة بخيرت الشاطر، أو
عبد المنعم أبو الفتوح.
·
الانقسام الحادث في جبهة تيار الإسلام السياسي، والذي
كثيراً ما كانت تعول عليه؛ خاصة بعد إعلان عدد من القوى السياسية الإسلامية عن
دعمها لعبد المنعم أبو الفتوح.
·
طبيعة الانتخابات الرئاسية وآلياتها بالقطع هي مختلفة عن
انتخابات البرلمان.
2. بدا أن المجلس العسكري قد أيقن أن الإخوان
لا كلمة لهم ولا حليف دائم، بل مصالحهم في التغلغل وتأسيس أو تقريب الدولة الدينية
حتى لو أخلفوا وعودهم، ورأى أنه يمكن الاعتماد على الفريق أحمد شفيق بديلاً عنهم،
فأنصاره من المؤيدين وبشدة للمجلس العسكري في إدارته للبلاد، بل ويطالبون بوضع خاص
للمؤسسة العسكرية في إدارة شئون الدولة.
3. نشطت ما يطلق عليها أجهزة ومؤسسات الدولة
العميقة في بث حالة من التخويف والتخوين لجماعة الإخوان المسلمين وبعض رموز الثورة
بما فيهم حمدين صباحي وعبد المنعم أبو الفتوح مرشحي الثورة، لصالح المرشح أحمد
شفيق وتصويره على أنه من سيأتي بالاستقرار والأمن للبلاد، ويجنبها ويلات الفوضى
التي كان يهدد بها مبارك.
4. بدأ الظهور القوي من جديد لرموز وقوى
الحزب الوطني المنحل، للوقوف خلف المرشح أحمد شفيق، والدعم الهائل لحملته
الانتخابية، وفي الحقيقة كانت هذه القوى تدرك أنها تخوض معركتها الأخيرة من أجل
البقاء، لذا لم تدخر وسعاً في تسخير امكاناتها المادية وخبراتها السياسية، وصلاتها
بالعائلات في الريف والصعيد لدعم أحمد شفيق.
5. أن عقلاء الثورة فشلوا في مناشداتهم للقوى
الثورية بالتوحد خلف مرشح واحد بما فيهم جماعة الإخوان المسلمين، فلم يدرك هؤلاء
أن لكل طرف هدف، ولكل طرف مصلحة وليس ضرورياً أن تتطابق أو تكون في مرحلة أدنى من
المصلحة الوطنية العليا كما تصور هؤلاء الأنقياء الثوريين.
6. كان هناك حجم ضخم من الأموال ينفق من قبل الجميع؛
لاسيما مرشح الفلول أحمد شفيق، ومرشح جماعة الإخوان محمد مرسي، والإشارة في ذلك عن
مؤشرات واضحة بوجود دعم خارجي لهؤلاء.
بالطبع كان لكل طرف من الأطراف حساباته، وتكتيكاته التي
أدار بها المنافسة:
-
جماعة الإخوان المسلمين، عولت على ما تبقى لها من رصيد في الشارع المصري،
وقدرتها على توظيف الدين باعتباره أداة لم تخذلها من قبل، مع الاعتراف بوجود
منافسين حقيقيين لهم في استخدام هذه الوسيلة لم يفقدوا مصداقيتهم لدى الشارع بعد،
فأرادوا تعويض ذلك من خلال حجم إنفاق مادي مذهل يفوق كل التصورات، وتحوم حوله كثير
من الشبهات.
-
حمدين صباحي، خاض التجربة بتأثير دعم شعبي وتاريخ نضالي طويل، وتجربة
ناصرية أعادتها أجواء ثورة يناير بقوة للوجدان المصري خاصة بين الشباب والنخبة
المثقفة، وإن كان يفتقد لكثير من الدعم المادي.
-
عبد المنعم أبو الفتوح، قدم نفسه باعتباره يمثل نموذجا للتوافق الوطني، وأراد
استغلال حالة الارهاق النفسي التي ألمت بالمصريين نتيجة الصراعات السياسية بين
التيارات والقوى المختلفة، كما قدم نفسه على أنه يمثل الوطنية المصرية بمرجعيتها الإسلامية
المعتدلة، وأظنه نجح في ذلك كثيراً.. وبدا أن حملته لم يكن يعوزها الدعم المادي
على غرار حملة حمدين.
-
أحمد شفيق، أظنه كان قارئ جيد للمشهد السياسي وتطوره، وعول كثيراً
على انقسام قوى الثورة، والتراجع النسبي لقوة جماعة الإخوان، وأدرك أنه يمكن أن يحصل
على دعم يمكنه من الدخول في منافسه حقيقة؛ لا سيما من الطبقة الرأسمالية
والبورجوازية التي ترى فيه ضمان لاستمرار حماية مصالحهم، ومن هؤلاء الذين يخشون
سيطرة التيار الإسلامي على السلطة، وممن أرهقهم غياب الأمن والاستقرار، فقدم نفسه
باعتباره ضامن لتحقيق الأمن بما له من خلفية عسكرية قادرة على تحقيق الضبط
والاستقرار. وبالطبع كان يحظى بدعم مادي هائل ولكنه لم يصل لقدرات جماعة الإخوان.
-
عمرو موسى، لم يسعفه ذكاؤه وخبرته الدبلوماسية الكبيرة في إدراك
حقيقة هامة؛ أن كل الأطراف، الثورة والفلول والتيار الإسلامي لم يراه واحد منهم،
كما أنه اعتمد على صورته السابقة في ذهنية المواطن المصري باعتباره وزير خارجية
جيد، وهذا لا يكفي لينتخبه المصريون في هذه المرحلة الدقيقة ليكون رئيساً
للجمهورية في الوقت الذي يهتم فيه المواطن العادي بمشكلاته الداخلية.
وبصرف
النظر عن كل التكتيكات والحسابات والتوقعات التي سبقت المرحلة الأولى من انتخابات
الرئاسة جاءت النتيجة بالإعادة بين محمد مرسي مرشح جماعة الإخوان المسلمين وبين
أحمد شفيق مرشح الفلول مفجعة ومربكة للبعض وسارة للبعض الآخر:
-
مفجعة ومركبة بل وكارثية بالنسبة للقوى الثورية ممن
دعموا حمدين وأبو الفتوح، فهؤلاء بقدر ما أدركوا حجم الخطأ القاتل الذي وقعوا فيه
وأوصلهم لهذه النتيجة حين عجزوا عن تحقيق التوافق وتوحيد الصف، وفتتوا كتلتهم
التصويتية التي أثبتت النتائج أنها كانت الأكبر، وكانت كفيلة بنجاح أحدهما، بقدر ما
سيطرت حالة من الارتباك حول ما هو آت؛ فهم أصبحوا أمام ثلاث بدائل جميعهم بمذاق
العلقم؛ الأول: التصويت لصالح مرشح جماعة الإخوان المسلمين (الفاشية الدينية)،
والثاني: التصويت لصالح شفيق (الديكتاتورية)، الثالث: مقاطعة المرحلة الثانية من
الانتخابات.
-
سارة لكلا المرشحين اللذان سيخوضان جولة الإعادة؛ فجماعة
الإخوان المسلمين صورت نفسها بأنها ممثل للقوى الثورية مقابل الفلول، وهو ما لم
يكن تستطيع طرحه في حال الإعادة مع أحد مرشحي الثورة (حمدين أو أبو الفتوح)، حينها
كانت ستطرح نفسها تحت شعارات دينية بحتة، وكانت تدرك جيداً حجم المأزق الذي بات
فيه الثوار، وأن الخيارات أمامهم لم تعد مفتوحة، وبات لسان حال الجماعة في معظم مؤتمراتها
إما أنا أو عودة نظام مبارك وإجهاض الثورة.
-
بالنسبة لمعسكر شفيق، كان النتائج أكثر من ممتازة،
وأعطتهم النتيجة قوة دفع هائلة وعززت الثقة في أنفسهم، وبات لسان حالهم يقول إما
نحن بما نمثله من دولة مدنية أو دولة دينية فاشية أشد استبداداً من نظام مبارك وإجهاض
الثورة.
ويالها من أقدار؛ يدعي الإخوان والفلول بأنهم حماة
الثورة في الوقت الذي يخرج صناع الثورة وحماتها الحقيقيين خارج المشهد!!.
كلا الفريقان كان يعلم جيداً أن فوز الآخر يعني نهاية
له، وشهد المجتمع المصري حالة من الاستقطاب غير مسبوقة، تشبه كثيراً تلك التي تسبق
الحروب الأهلية، وكلا الفريقان كان يدرك جيداً أنه وصل للحد الأقصى من كتلته
التصويتية في الجولة الأولى، ومن يريد الفوز عليه أن يستقطب بكل الطرق مؤيدين جدد
من معسكر الثورة.
ومن جديد وجدنا جماعة الإخوان المسلمين يتحدثون عن وحدة
الصف، ويتحدثون على المشاركة، بعد أن كانوا أول من شق الصف وتآمر على الثورة، بعد
أن اتبعوا سياسة الاستحواذ بدلاً عن المشاركة.
وفي المقابل كان معسكر الثورة يعلم تمام العلم أنه لا
عهد ولا أمان للإخوان، لكن مالبديل؟ وجل ما فعله هذا المعسكر هو أن استبعد خيار
شفيق من الخيارات الثلاثة، وصار أمامه خيار المقاطعة، وهو ما يمكن أن يصب بالقطع
في صالح شفيق، أو خيار التصويت لصالح الإخوان، وهو رهان خاسر بنسبة كبيرة، ولكن ما
باليد حيلة، لعلهم -أي الإخوان- يكونوا قد تعلموا الدرس، وأدركوا حجم الخطر الذي
تتعرض له الثورة والوطن جراء أفعالهم التي تحركها أطماعهم، وأنهم وحدهم لن
يستطيعوا أن يفعلوا شئ.
وفي قراءة سريعة للمشهد يمكن استخلاص الآتي:
1. ظهر جلياً القوة الحقيقية لجماعة الإخوان
المسلمين في الشارع المصري، وأنها أقل كثير مما كانوا يصورون.
2. أن الأغلبية الحقيقة في الشارع المصري مع
معسكر الثورة، وهي نقطة مبشرة لو تم العمل عليها.
3. أن انقسام صف الثوار كان سبب الكارثة
الحقيقة التي تعانيها الثورة.
4. أن نظام مبارك لازال قوياً وقادراً على
الحشد والتأثير.
مع
بروز احتمال وصول مرشح جماعة الإخوان إلى منصب رئاسة الجمهورية، المنصب الحاكم فى
تاريخ مصر بحكم كل تراث الحكم الفردى الاستبدادى، استنفر المجلس العسكرى واستخدم
كل أدوات قوته المباشرة وغير المباشرة، وفى القضاء الذى لا تبعد أصابع المجلس
العسكرى عنه بالذات من ناحية توقيت الأحكام والتقديم والتأخير فى تاريخ الحكم فى
القضايا المختلفة تبعا للمواءمات السياسية، صدر الحكم القضائى بحل مجلس الشعب فى
14 يونيو، قبل انتخابات مرحلة الإعادة مباشرة (فى 16 و17 يونيو)، ومثلت حيثيات
الحكم مبررا قويا متوقعا لاستخدامهما فى حل مجلس الشورى والجمعية التأسيسية
المنبثقة عنها.
ثم
تلا تلك الخطوة قيام المجلس العسكرى بإصدار الإعلان الدستورى المكمل فى 17 يونيو،
اليوم الثانى فى انتخابات الإعادة، لكى يستبق انتخابات الرئاسة بخلق وضع يتيح له
التحكم فى الأمور مهما كان الرئيس، ويبدو – أيضا- أنه تصور أن تقارب نسبة التصويت
بين مرشحي الإعادة، وحالة الزخم والثقة التي ملأت أنصار شفيق، في ظل حالة الارتباك
في معسكر الثوار تمكنه من استخدام أدوات الدولة العميقة –على غرار ما كان يفعل
نظام مبارك طيلة 30 سنة- لترجيح كفة مرشح على آخر، وهذا المرشح كان شفيق. وإذا ما
أمكنه فعل ذلك يكون قد حقق هدفين؛ الأول التخلص من جماعة الإخوان نهائياً، والثاني
محاصرة معسكر الثوار.
إزاء
ذلك طلبت جماعة الإخوان المسلمين من حلفائهم الأمريكان التدخل للضغط على المجلس
العسكري لمنع أي محاولة من جانبه لتزوير الانتخابات لصالح أحمد شفيق، وبالطبع كان
كل هذا يتم بجانب نشاطهم الدبلوماسى القوى مع واشنطن من خلال بعثتهم هناك التى
مكثت نحو الشهر، طوال فترة الأزمة.
وفي
هذا الصدد، تردد أن الأمريكان قد هددوا بفتح ملف الفساد في المؤسسة العسكرية، وشرعوا
في ذلك حين تقدم أعضاء بالكونجرس الأمريكى باقتراح وقف المعونة الأمريكية العسكرية
لمصر حتى تعلن بشفافية أوجه إنفاق المعونة السابقة، التى يعرف الأمريكان بالطبع عن
ثقة بالنصيب الذى ناله العسكر منها كنتيجة للفساد.
وكدليل
إضافي، ما أن أُعلن عن فوز مرسى وتسلم السلطة فى أول يوليو حتى سحب الأمريكان
اقتراحهم بالشفافية موضحين أن المعونة العسكرية ستستمر بدون شروط، وأنهم ليس من
سياستهم التدخل فى أوجه صرف المعونة العسكرية، وليس لهم مطالب فى مجال الإعلان عن
أوجه الإنفاق!.
كما
هددت الجماعة بالنزول العنيف إلى الشارع إذا ما تم تزوير الانتخابات وعاشت مصر بحق
نذر حرب أهلية وشيكة، فقوى الإخوان المنظمة حوالي 850 ألف، وحجم مليشياتهم المدربة
والمسلحة حوالى 160 ألفا، غير ما أضيف لها بعد الثورة.
وهنا
لابد أن نعترف بالقدرات التنظيمية للجماعة التي مكنتها من استباق إعلان النييجة
بفوز مرشحها محمد مرسي، مدعمه في ذلك بصور من محاضر لجان الفرز الفرعية والعامة،
الأمر الذي وضع المجلس العسكري أمام خيار وحيد؛ هو إعلان النتيجة كما هي دون تدخل ..
وقد كان وأعلن فوز محمد مرسي، وهي النتيجة التي تثار بشأنها الآن كثير من الشكوك
وعلامات الاستفهام.
منذ
فوز جماعة الإخوان المسلمين بمنصب الرئاسة، وأصبح جل شغلهم الشاغل أخونة الدولة،
والسيطرة على كل مفاصلها؛ بدءاً من الجيش وحتى القضاء مروراً بكافة أجهزة الدولة
التنفيذية والإعلام، وكعادتهم نكثوا كل وعودهم، وتعاملوا مع معارضيهم ومنتقديهم
بنفس منطق ومنهج الحزب الوطني المنحل.
أصبح
الهم الشاغل للجماعة تنفيذ خطة يطلق عليها "خطة التمكين"، وهي تمر
حالياً بالمرحلة الأولى بعد الوصول للحكم، وتسمى"مرحلة نشر الرجال"، ومعناها
نشر الرجال الذين يحملون أفكار الجماعة في إدارة الدولة، وهو ما يشغل قيادة
الجماعة حالياً، وفي هذا الإطار ستجد في الفترة القادمة عدداً كبيراً من الشكاوى
ضد رؤساء الهيئات العامة والشركات القابضة، الذين ستعقبهم الإخوان حتى يعزلوهم من
مناصبهم ويحلوا مكانهم رجالهم!!، وفي هذه المرحلة لا خلاف في المصالح بين مرسي والإخوان
وإنما سيظهر الخلاف في مراحل متقدمة!! خاصة إذا ما استمر مرسي في الحكم لمدة أخرى.
وصار
جلياً أن جهاد الإخوان قبل الثورة كان جهاد الشعارات، أما جهادهم اليوم فهو جهاد
تثبيت الحكم، وإن تخلوا عن جميع قناعاتهم وأفكارهم.. ووضح أن الإخوان كانوا
يتاجرون بهذه الشعارات من أجل الجلوس على كرسي الحكم، فلما جلسوا على الكرسي صارت
تلك الشعارات لا قيمة لها.
فما
كان محل نقد منهم حين كانوا خارج السلطة صار محل استحسان بعد ما أصبحوا في السلطة،
وسبحان الله كما أوجدوا من الكتاب والسنة ما يدعم ويبرر رفضهم للشئ، أوجدوا أيضا
من الكتاب والسنة ما يدعم ويبرر قبولهم لنفس الشئ.
ومثال واضح على هذا، الاقتراض من صندوق النقد
الدولي؛ حين سعت إليه حكومة الجنزوري هاجت الدنيا وماجت باعتباره ربا وحرام شرعاً،
ولكن حين سعت إليه بعد شهور قليلة حكومة هشام قنديل الإخوانية صار قرضاً حسناً ..
كذلك
حين طالب الثوار بمحاكم ثورية استثنائية لمحاكمة قتلة الثوار وعناصر النظام السابق
الفاسدين أطل علينا قادة الجماعة وعلى وجوههم الورع والتقوى وعلامات التسامح ليؤكدوا
أننا دولة مؤسسات، ويطالبوا بتطبيق القانون الطبيعي وعدم اللجوء لإجراءات
استثنائية، وأنهم يثقون في أحكام القضاء المصري.
وفور
أن تولى محمد مرسي رئاسة الدولة كان من أول قراراته عودة مجلس الشعب المنحل بحكم
القضاء، وذلك لأن فيه مصلحة الجماعة باعتبارها تمثل أغلبية المجلس، فتجمع في يدها
سلطة التشريع والسلطة التنفيذية.. ولا عزاء للدستور والقانون.
ثم
مؤخراً محاولة عزل النائب العام، وهو ما يخالف القانون والدستور، ولكن مصلحة
الجماعة تقتضي ذلك، فالرجل رغم أنه مرفوض شعبيا باعتباره كان يجسد أحد أدوات نظام
مبارك للبطش بمعارضيه بدلاً من أن يكون محامي الشعب، إلا أنه أيضا ليس من
المتحمسين لأن تتولى الجماعة السلطة في البلاد فأصبح التخلص منه هدف أساسي .. ولا
عزاء للدستور والقانون.
كما
أن الرئيس محمد مرسي عين سفيراً جديداً في إسرائيل، وأرسله فورا!! وهو الذي كان
يقف على أبواب مجلس الشعب مطالباً بطرد السفير الإسرائيلي من مصر وقطع العلاقات مع
إسرائيل وأمريكا!! هل كنت تتخيل أنه يوقع قرار تعيين السفير المصري في تل أبيب
بسرعة البرق، وأن مؤيديه يصفون ذلك القرار بأنه "ذكي" ويتفق مع القواعد
الدبلوماسية!! وتخيل أيضاً رد فعل هؤلاء لو كان أحمد شفيق مثلاً هو من أصدر القرار،
طبعاً كان سينهال عليه الطوب الإخواني من كل حدب وصوب!!
حتى
مشروع النهضة الذي ملأوا الدنيا تبشيراً به، وقدموه على أنه باب الجنة للمصريين، ثم
فجأة بدأ التراجع عن هذا المشروع .. فنرصد تصريح لرجل الإخوان القوي خيرت الشاطر
يقول فيه عقب فوز مرسي بانتخابات الرئاسة: "أن مشروع النهضة لا وجدود له، وأن
تصريحاته فهمت خطأ"، وهناك تصريح آخر للدكتور ياسر علي- المتحدث الرسمي
لرئاسة الجمهورية- قال فيه: "إن النهضة ليست مشروعات اقتصادية وتنموية ترتفع
مؤشراتها حينا، وتنخفض حينًا آخر، بل مشروع فكري"!!!.
واهم من يظن أن الإخوان
يمكن أن يقدموا شئ أفضل من مبارك، هم فقط "الطبعة الإسلامية" منه، آتوا
لسدة الحكم برضاء واتفاق مع الولايات المتحدة الأمريكية ليكونوا امتداداً لنظام
مبارك في نسخته الإسلامية، ولن يستطيعوا أن يحيدوا عن الأجندة الأمريكية على
الإطلاق، حتى لو خرجوا وشتموا أمريكا وهذا ما لم يحدث إلى الآن، وإن حدث فسيكون
باتفاق!!
أي
عبث وأي هزل هذا .. أي فوضي ومصير مظلم يأخذونا إليه .. هل يدركون نتائج أفعالهم،
وينفذون مخططاً شيطانياً يقدمون فيه مصلحة الجماعة وأجندتها على مصلحة مصر؟ أم
أنهم لا يدركون ما يفعلون؟ .. كلا الأمرين كارثي؛ لأن النتيجة في النهاية واحدة هي
الفوضى والعنف المدمرين لكل ما هو على أرض مصر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق