الخميس، 8 سبتمبر 2011

الثورة في حاجة لثورة


* بقلم: محمود جبر

       حين خرج القائد العسكري المصري أحمد عرابي على رأس جنوده المصريين عام 1881 يطالب الخديوي توفيق بتلبية حقوق مشروعة للجيش والشعب المصري أيده عموم المصريون. ورغم فشل ثورة عرابي بتواطؤ الخديوي مع الخارج البريطاني، ورغم مراجعات بعض قادة الثورة من أمثال الإمام محمد عبده ومحمود سامي البارودي اللذان اعترفا ببعض القصور والخطأ في ثورتهم مما أدى في النهاية إلى احتلال مصر من المستعمر البريطاني إلا أنه لم يخرج من المصريين من شكك في وطنية عرابي أو الثوار، ويتهمهم بالبلطجة والعمالة، لم يدين أحد الثورة أو أهدافها، لم يدافع أحد عن حكمة ونزاهة الخديوي توفيق ونظام حكمه الفاسد، بل ظل عرابي وثورته صفحة ناصعة في تاريخ نضال الشعب المصري من أجل الحرية والكرامة، وذهب الخديوي توفيق ونظامه إلى مزبلة التاريخ.

       وفي ثورة 1919 خرج المصريون يدافعون عن استقلال وطنهم، وحرية قادتهم الوطنيين وعلى رأسهم الزعيم سعد زغلول، وأعضاء الوفد المصري الذي سافر إلى مؤتمر الصلح للمطالبة باستقلال مصر عن المستعمر البريطاني. ورغم الخلافات الحادة بين أعضاء الوفد – فيما بعد – لم يُخَوِن أحد الآخر، ولم يُخَوِنَهم أحد، لم يهاجم أي من المصريين الثورة أو الثوار، ولم يعتدي أحد على من يطالب بحقوق شهداء الثورة، ومحاسبة المفسدين.

       وهكذا الحال بالنسبة لحركة الجيش المصري عام 1952 التي تحولت بدعم جموع الشعب المصري إلى ثورة وطنية حقيقية، استطاعت أن تحدث تغييرات جذرية في بنية المجتمع المصري، حاولت أن تقيم مجتمع الكفاية والعدل، حاولت أن تضع مصر في مكانتها الإقليمية والدولية التي تستحقها، حققت الكثير من الانجازات والانتصارات، وفشلت في تحقيق البعض الآخر، شأنها شأن كافة التجارب الإنسانية تخطئ وتصيب. ورغم تعدد الأطراف المعادية للثورة في الداخل والخارج لم يكن أحد يجرؤ على المساس بها قبل هزيمة 1967، ولم يكن أحد يجرؤ على وصفها بأنها سبباً في خراب مصر، وحتى بعد الهزيمة أشاد المنصفون والموضوعيون بانجازاتها، وتضحيات أبنائها، واعترفوا بسلبياتها، وأولهم قائد الثورة نفسه الزعيم جمال عبد الناصر، ولكننا لم نشهد من يطالب بعودة أسرة محمد علي، أو الاحتلال البريطاني لمصر، أو هدم السد العالي، أو إعادة القناة للأجانب ...إلخ.

       أما ما تشهده ثورة 25 يناير 2011 من إهانة للثوار، ووصفهم بالبلطجة والإرهاب، ونعتهم بأنهم كانوا سبباً في خراب البلاد والإضرار بالعباد، وتكالب قوى غاشمة باطشة عليها لإجهاض الحلم في مهده تحت سمع وبصر المجلس العسكري، وحكومة د. عصام شرف اللذين وثق فيهما الثوار وأولوهما أمانة رعاية هذا الحلم البريء النقي، كل هذا يجعلني أشعر وكأن الثورة طفل ولد يتيماً أوكل أبائه لغيرهم مهمة رعايته، وما أقسى اليتم في وجود الآباء.

       لا أدري كيف وقع الثوار أصحاب الثورة الحقيقيون في هذا الخطأ التاريخي والاستراتيجي، لا يوجد ثوار في التاريخ رووا ثورتهم بدمائهم الزكية، ثم سلموها إلى غيرهم، ومن هم غيرهم هؤلاء؟ هم أهم سدنة النظام السابق وحماته، هم جزء أصيل لا يتجزأ منه؛ هل ينكر أحد أن المجلس العسكري، وليس الجيش المصري كان ولا زال أهم ركائن حماية نظام مبارك، رئيساً ونظاماً، والآن نظاماً بدون الرئيس.

       ربما كانت الإجابة على سؤالي هذا، هو أننا كما يقول عنا أعدائنا لا نجيد القراءة، لا سيما قراءة تاريخنا. ألم يثور المصريون على الوالي العثماني المستبد خورشيد باشا، وبدلاً من اختيار حاكم من بينهم لتولي زمام الحكم في مصر، باعتبارها فرصة تاريخية، نجدهم بغرابة شديدة يضعون محمد علي، هذا الجندي الذي أتى ضمن قوة حامية للوالي المستبد.

       هل هي فقدان الثقة في الذات؟ كيف وقد استطاعوا أن يقهروا ويسقطوا أكبر طغاة تاريخهم الحديث والمعاصر. هل لم يجدوا من بينهم من يصلح للقيادة؟ كيف ومصر بها من الكفاءات والخبرات والعقول والوطنيين من يفوق كل من تعاونوا مع النظام الفاسد وأتى بهم الثوار. هل هي البراءة الثورية؟ لا أظن ذلك؛ شتان بين البراءة والسذاجة الثورية.
      
ورغم بعض المواقف التي اتخذها المجلس والتي تثير التساؤل أثناء الثورة، ولعل أبرزها موقفه يوم موقعة الجمل، ففي الوقت الذي كان هو المسئول عن الأمن في مصر بعد مؤامرة انسحاب الشرطة، سمح لبلطجية مبارك بالوصول إلى ميدان التحرير مدججين بالأسلحة والخيول والجمال، وجعل قواته تقف على الحياد ولا تتدخل لمنع صدام كان الهدف منه التنكيل بالثوار، وإجهاض الثورة، وكأنه كان يريد الوقوف على حقيقة ميزان القوة في مصر، هل الثوار قادرون على الاستمرار فيقف بجانبهم ليكون في صف المنتصر، أم يستطيع زبانية النظام قتل الثورة في مهدها، وحينها يكون في صورة من منح النظام طوق النجاة الأخير بغض الطرف عن البلطجية.
       كما أن ما تكشف مؤخراً ولازال يتكشف من معلومات عن أن الرئيس المخلوع وأسرته وحاشيتهم كانوا على وشك الغدر بقادة المجلس العسكري، سواء قبل وقوع أحداث الثورة أو أثنائها، عاملاً مؤثراً في عدم استخدام القوة ضد الثوار، لأنهم الضمانة الرئيسية لبقاء هؤلاء القادة.

       أضف إلى ذلك، أن المجلس العسكري لو اتخذ قراراً باستخدام القوة ضد الثوار كان قد عرض وحدة الجيش المصري واستقراره لخطر جسيم، وها هي الأحداث في ليبيا وسوريا واليمن تثبت صحة ذلك، فالجيش المصري بعقيدته الوطنية عبر تاريخه لم يستخدم قوته لضرب أي حركة وطنية، بل على العكس كان دائما طليعة هذه الحركة وداعماً لها.
      
       رغم كل هذا، اعتقد الثوار أن موقف المجلس العسكري في عدم استخدام القوة ضد الثوار دليلاً على إيمانه بالثورة ومبادئها، استناداً على العقيدة الوطنية للجيش المصري وسلموه ثورتهم واستأمنوه عليها، وذهبوا إلى بيوتهم يراقبون ما يصنع!!!، وهذا مأزق وخطأ تاريخي آخر حين عجز الثوار مبكراً عن تمييز الاختلاف بين المجلس العسكري والجيش، فالأخير مؤسسة ذات عقيدة مصرية وطنية، أما المجلس العسكري هم ممثلي النظام في إدارة هذه المؤسسة يرأسه رئيس النظام المخلوع.

       لذا، لم يكن من المستغرب أن يحدث ما حدث ومازال يحدث من محافظة المجلس العسكري على نظام مبارك الذي هو – المجلس العسكري – جزء أصيل منه، فوضع على رأس أول حكومة بعد الثورة واحد من المحسوبين على المؤسسة العسكرية، وأهم رجالات النظام الفاسد وأحد الأصدقاء المقربين من الرئيس المخلوع هو الفريق أحمد شفيق، الذي شكل وزارة معظم أعضائها ممن ينتمون إلى الحزب الوطني الديمقراطي (الحزن الوطني)، الذي جرف مصر عبر عقود من كل خيراتها، وكان سبباً في كل ما هو سئ فيها، وهو ما أدركته جموع المصريين فكانت مقاره أول ما تم تدميره أثناء الثورة. بل وأكثر من هذا تباطئ إلى حد التواطؤ كل من المجلس العسكري، وأحمد شفيق في اتخاذ ما يلزم من قرارات وإجراءات لمحاسبة قتلة الثوار، ومن أفسدوا الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في مصر على مدى عقود، بداية من الرئيس المخلوع وأسرته، نهاية بأصغر مسئول فاسد، وأعطوهم الوقت والفرصة لترتيب الأوراق وتهريب الأموال، والتخلص من كل ما يدينهم.

       ظل الثوار يستجدون!! .. يناشدون!! .. يطالبون!! .. يصرخون من أجل تغيير الحكومة وإيقاع أكثر سرعة لانجاز أهداف الثورة، وكانت ردود فعل الحكومة والمجلس العسكري كأنها تقول ماذا تريدون أكثر من هذا، لقد رحل الرئيس .. وهذا يكفي. ولأن جذوة الثورة كانت لم تخبو بعد وبها بقية باقية، حشد الثوار قواهم في توابع للثورة أطلقوا عليها مليونيات –بصرف النظر عن العدد الحقيقي- للضغط على المجلس العسكري وطالبوا بتكليف رئيس حكومة جديد حددوه من بين ثلاثة أسماء هم (د. حازم الببلاوي – د. أحمد جويلي – د. عصام شرف)، وبصرف النظر عن السبب في ترجيح كفة د. عصام شرف التي سوف تكشفها الأيام، نلاحظ أن الثلاثة كانوا يمثلوا التكنوقراط وليسوا الثوار، وهذه مفارقة، ألا يجب تأمر الثورة فتطاع، ألا يجب أن تضع رئيس حكومة ثوري يشكل حكومة ثورية تحقق أهدافها في إحداث تغيير جذري في بنية المجتمع والدولة، ثم بعد ذلك يأتي دور التكنوقراط، هذا إذا كنا نؤمن أننا إزاء ثورة حقيقية.

       ورغم أن د. عصام شرف تم تكليفه واكتسب شرعيته من ميدان التحرير في مشهد دراماتيكي سينمائي،  ظل عاجزاً حتى عن تغيير وزراء حكومته الذين كانوا ينتموا إلى الحزب الوطني ويعرقلون أي تغيير حقيقي. وإذا أمكن تفهم هذا في ظل حجم الضغوط عليه، والصلاحيات التي يعطيها الإعلان الدستوري للمجلس العسكري في تعيين وإقالة الوزراء، لا يمكن تفهم عدم وفائه بوعده الذي قطعه على نفسه في ميدان التحرير أمام الثوار بأن يقدم استقالته حال عجزه عن تلبية مطالب الثورة.

       النتيجة الطبيعية لكل من:
·  أخطاء الثوار الإستراتيجية بدءً من تسليم الثورة للمجلس العسكري، وهذا التشرذم الحالي في قوى الثورة مروراً بآلية وأسس تشكيل الحكومة.
·       التباطؤ المريب في قرارات المجلس العسكري.
·       الرخاوة التي تعاني منها الحكومة.
كان من شأنه أن جعل أعداء الثورة في الداخل والخارج يتجرؤوا عليها، ويتكالبون على محاربتها وهدمها في العلن بعد أن كانوا يفعلون هذا في الخفاء، بل الأكثر من هذا فتحت لهم أبواق الإعلام الرسمي والخاص لبث سمومهم في جسد المجتمع المصري، وتضليله بتصوير الثورة بأنها سبباً في كل ما يعانيه المجتمع من أزمات السبب فيها النظام السابق الفاسد، وتخاذل المجلس العسكري ورخاوة حكومة شرف، وتشرذم الثوار.

   فلم يعد من المستغرب أن نشاهد من يدافع علانية عن الرئيس المخلوع من أمثال جماعة "أسفين ياريس" و "أبناء مبارك"، ومحامون يتطوعون ليدافعوا عن أعضاء النظام السابق، وهذه المعاملة المتميزة التي يعامل بها المتهمون في قضايا فساد وقتل الثوار وعلى رأسهم الرئيس المخلوع وأسرته، واعتداء أنصارهم على أهالي الشهداء والثوار، بل والأكثر من هذا صار بعض الإعلاميين والصحفيين من المتحولون ورجال الصف الثاني في الحزب الوطني ممن ظهروا على سطح الحياة السياسية من جديد كطفح جلدي دميم على جسد الثورة الجريح لينعتوا الثوار وأهالي الشهداء بالبلطجية والمخربون، ويحرضون عليهم قوات الأمن من الجيش والشرطة التي عادت من جديد لسيرتها الأولى في قمع الثوار تحت سمع وبصر الجميع، مستغلة في ذلك حالة التفتت في صفوف الثوار.

   ووصل تجرؤ هؤلاء إلى الحد الذي جعل أعداء الثورة في الخارج من دويلات صغيرة تهدد مصر باتخاذ إجراءات عقابية ضدها في حال تقديم مبارك للمحاكمة، بل وترسل محامون للدفاع عنه في انتهاك صارخ للسيادة الوطنية المصرية، واستفزاز لمشاعر جموع المصريين ممن نكل بهم هذا الطاغية المخلوع.    

 الأمر الأكثر استفزازاً على الساحة السياسية في مصر حقاً، هو موقف بعض المتحذلقين ممن يدعون أنفسهم أنصار الثورة، والمنادين بالحرية والديمقراطية واحترام حقوق الإنسان الذين يرون أن السماح لأعداء الثورة بالهجوم عليها قمة الديمقراطية والحرية!!.
أهي المثالية؟! أم خطأ تاريخي آخر؟! أنن
      
       كفانا كل هذا التشرذم، كفانا أخطاء تاريخية، كفانا تفريط وتهاون في الحقوق، كفانا تخاذل عن حماية الثورة.

       يا بني وطني، أيعقل أن يصبح الثوار قلة مندسة .. مخربة، يتهمون بالبلطجة، وتدمير الوطن، وصار أذناب الحزب الوطني، والمتحولون، والمتاجرون بالسياسة والدين هم الأغلبية الثورية الحريصة على مصلحة الوطن.

أيعقل أن نستبدل الطاغية مبارك بالمجلس العسكري، الذي يخرج علينا أعضائه في كل تصريح ملوحين متوعدين، مذكرين بفضلهم على الثورة، أيعقل أن نستبدل الحزب الوطني بجماعة الإخوان المسلمين.

أي ثورة هذه؟ .. أي مثالية هذه؟ .. أي مصير نسير إليه؟.

الثورة تضيع .. الثورة في خطر

سامحوني مقالي لي سوداوياً بقدر ما يدق ناقوس الخطر الأخير .. واستغاثة بالله وشرفاء هذا الوطن.
 حمى الله مصر وشعبها، وصان ثورتها ومجدها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق