الأحد، 8 يوليو 2012


اليوم التاسع عشر
المغزى والدلالة
بقلم : محمود جبر

حين نجح الثوار في إجبار الرئيس السابق محمد حسني مبارك على التنحي وترك منصبه في اليوم الثامن عشر للثورة الموافق 11 فبراير 2011 تصور الكثيرين أن نظام مبارك سقط معه، ولم يخطر على عقل أحد من الثوار أنه بعد عام ونصف تقريباً سيجد الشعب المصري نفسه مجبراً ومضطراً للإختيار بين الاخوان المسلمين أو إعادة انتاج نظام مبارك.

مع تطور الأحداث، ولأسباب عديدة لعل أبرزها وأخطرها ذلك الخطأ الاستراتيجي الكبير الذي وقع فيه الثوار على اختلاف توجهاتهم السياسية والايديولوجية وهو التشرذم وتمزق الصفوف والاستقطاب والأداء الانتهازي لجماعة الاخوان المسلمين، أكبر فصيل منظم في معسكر الثورة، في الوقت الذي كانت فيه فلول النظام السابق الفاسد تمتص صدمة الثورة، وتستعد لتوحيد صفوفها وترتب قواعدها من جديد، وتنفذ خطة مجربة من قبل في رومانيا تهدف إلى جعل الشعب يكفر بثورته، ويبتعد عنها، ويرى أن نظام ما قبل الثورة كان أفضل مما بعدها؛ وذلك من خلال خلق أزمات اقتصادية وإشاعة حالة من الفوضى تهدد أمن المواطنين، وبث الشائعات حول رموز الثورة التي تنال من وطنيتهم وسمعتهم.

وبدئنا شيئاً فشيئاً نلحظ عودة الآلة الاعلامية لنظام مبارك تنصب ترساناتها في اتجاه معسكر الثورة، وتطلق خططها لتشويه الثورة والثوار، وفي المقابل تدافع عن بعض رموز النظام السابق، وتمهد لوضعهم من جديد على خريطة المسرح السياسي لمصر، وفي الوقت الذي كانت هذه الآلة وأبواقها ينسبون الفساد في عصر مبارك إلى رجاله، وأنه وأولاده يقاومون هذا الفساد، أصبحت تعكس الحال، وتصور أن الفساد كله كان في الرجل وأولاده، وأن الرموز التي تدعمها لم تكن راضية عن ذلك، وكثيرا ما حاولت منع ذلك بقدر ما استطاعت.

ولابد أن نعترف أن فلول نظام مبارك وآلتهم الإعلامية حققوا نجاحات ملحوظة، واستطاعوا أن يزيفوا وعي كثير من بسطاء المواطنين ممن تدهورت أوضاعهم الاقتصادية والأمنية بعد الثورة أكثر مما كانت قبلها، وممن أصيبوا بحالة من الاحباط بعد تلك الآمال الكبرى التي داعبت عقولهم وقلوبهم أثناء الثورة .. وشيئاً فشيئاً تعمق زيفهم داخل شرائح عديدة من المجتمع، وامتد إلى أقباط مصر، وهو ما كان مقصودا ومخططاً له ليستخدموه في وقت ولحظة معد لها بإحكام.

كل هذا، ومعسكر الثوار من أحزاب ونخب وجماعة الاخوان المسلمين منشغلاً بالتناحر والتنظير والجدل السياسي والأيديولوجي والتفاوض مع العسكر؛ أما النواة الصلبة للثورة وأصحابها ومفجريها الحقيقيين من شباب 6 أبريل والاشتراكيين الثوريين وحركة كفاية والشباب الطاهر الحر الذي خرج يوم 25 – 28 يناير 2011 يتصدى بصدره العاري للموت من أجل حرية وطنه فهؤلاء كانوا يستشعرون حجم الخطر الزاحف نحو الثورة، وظلوا خلال عام ونصف يحاربون على جبهات متعددة، ويقدمون شهداء على محراب الوطن:
أولها، داخل جبهتهم –معسكر الثورة- ضد انتهازية الاخوان ومغالبتهم، وضد نخبة متكلسة لم تستوعب معنى ولا مفهوم العمل الثوري، نخبة اعتادت على الحلول الوسط، والرضا بما يمنح لهم من السلطة.
وثانيها، جبهة خارج معسكر الثورة؛ وهما عنصرين بينهما كثير من المصالح وبالتالي الأهداف المتشابكة المتداخلة:
العنصر الأول: ضد المجلس العسكري الذي أراد للثورة والثوار أن يتوقفا عند اليوم الثامن عشر للثورة –يوم تنحي المخلوع-، من خلال رؤيته للمرحلة القادمة بأنها اصلاح فساد نظام مبارك، وإعادة انتاجه مرة أخرى؛ لأنهم بكل بساطة يعتبرون أنفسهم جزء منه، ومصالحهم شديدة الارتباط به.
العنصر الثاني: فلول نظام مبارك، الذين ارتبطت مصالحهم الفئوية أو الطبقية أو الشخصية بالنظام، وهم متغلغلين في كافة مفاصل الدولة العميقة، ويرون أن نجاح الثورة يعني ضياع مصالحهم وامتيازاتهم، هؤلاء اعتبروا معركتهم ضد الثورة معركة وجود، وسخروا لها كافة الامكانيات والخبرات، وهي كثيرة هائلة حصلوا عليها من دماء المصريين عبر عقود، والآن يستخدموها لإجهاض ثورتهم.

وبالطبع لم تكن المعركة التي يخوضها الثوار الحقيقيين النواة الصلبة للثورة متكافئة على كلا الجبهتين لسببين رئيسيين، الأول: ناتج عن قلة الامكانيات وخبرة العمل السياسي على الأرض، وثانياً: غياب التنظيم الداعم، وهما عاملي القوة اللتان يتمتع بهما أعدائهم.

وسط هذا التناحر والجدل والانتهازية داخل معسكر الثورة لم ينتبه أحد لصراخ الثوار الأطهار محذرين من الخطر، ولم يلبث أن استفاق الجميع على نبأ ترشيح اللواء عمر سليمان لمنصب رئيس الجمهورية، والكل يعرف من هو عمر سليمان خاصة في العقد الأخير من عصر مبارك، باختصار هو الصندوق الأسود وحامي نظامه؛ ذلك الرجل الذي اختاره مبارك في الأيام الأخيرة لعهده لحماية نظامه المتهاوي.

وبدا كما لو أن الدهشة اخذت الجميع، ونسوا أو تناسوا ما حذر منه رجل منهم لم يشغله الوصول للسلطة أو تقسيم التورتة عن رؤية المستقبل بعمق وتبصر، وهو الدكتور محمد البرادعي الذي بح صوته من المطالبة بتوحيد الصف، ووضع القواعد الأساسية لمصر الثورة .. مصر الحديثة، من خلال تشكيل مجلس رئاسي يقود البلاد في فترة انتقالية يتم فيها صياغة دستور مدني حديث للبلاد، يحدد شكل الجمهورية المصرية الثانية، وحذر من أن التشرذم وفقدان التوحد الذي كان مصدر قوة الميدان سيكون مدخلاً لفلول النظام الفاسد السابق لإعادة انتاجه من جديد.

وأدرك الجميع أن ما توقعه الرجل لم يكن محض تهويل أو ترويع، بل أصبح خطراً محدقاً حقيقياً يهدد كيان الثورة، وكعادتنا نحن المصريين – للأسف – لا ندرك الخطر إلا بعد وقوع الكارثة .. انتفض مجلس الشعب وأخذ يهرول لصياغة قانون يمنع فلول نظام مبارك من الترشح لانتخابات الرئاسة، وهو ذات المجلس الذي لم يعر أدنى انتباه لنداءات مخلصي هذه الأمة الذين طالبوه منذ اليوم الأول لعمله بتفعيل قانون الغدر أو العزل السياسي، وتحججت الأغلبية البرلمانية من تيار الاسلام السياسي بالديمقراطية، والعزل الشعبي كما طبقه الشعب على فلول النظام السابق خلال الانتخابات البرلمانية، وجهلوا أن مياه كثيرة جرت في النهر!!.

وبطبائع الأمور، سن القانون بطريقة تشريعية غير مسبوقة، في مناخ محموم من الفوضى والتوتر، وكانت النتيجة التي أكد عليها جميع خبراء القانون الدستوري أن القانون غير دستوري، وسوف تبطله المحكمة الدستورية العليا، وهو ما كان لاحقاً.

ولإحباك المخطط، أقر المجلس العسكري القانون، حتى لا يصطدم بالشارع ويظهر أمام الشعب بأنه داعم لعودة النظام السابق، في الوقت الذي كان مخططه يسير في اتجاه آخر تماماً معتمداً على مؤسسات الدولة العميقة (وكله بالقانون)، حيث يلقي عليها عبء هذا الاصطدام.

وهنا لابد أن أسجل اعترافي لحنكة الخبراء الذين استعان بهم المجلس العسكري في إدارة المرحلة الانتقالية، وبالآلية التي استخدموها بما يسمح للمجلس بتنفيذ مخططه في حماية مصالحه، وتحجيم الثورة عند الحد الذي يريده وفقاً لرؤيته لها.

وفي الوقت الذي تصور فيه معسكر الثورة – الذي توحد لعزل اللواء عمر سليمان- أنه انتصر بعد أن أقر المجلس العسكري قانون العزل السياسي، وبعد قرار لجنة الانتخابات الرئاسية بشطب اللواء عمر سليمان من الترشح لانتخابات الرئاسة، كان مخطط المجلس العسكري ومن خلفه مؤسسات الدولة العميقة يسير في طريقه بإتقان جدير بالاعجاب، فهاهم ينجحوا في جذب أنظار الجميع نحو هدف هيكلي يبدو للجميع ضخماً وصيداً ثميناً، ليخفوا هدفهم الرئيسي والاستراتيجي.. لم يفكر أحد لماذا استبعدت اللجنة اللواء عمر سليمان، هل يعقل أن يقع رجل بحجم وخبرة اللواء عمر سليمان في خطأ عدد التوكيلات الذي على أثره أعلنت اللجنة اسبعاده من سباق الرئاسة؟ .. المهم أنه استبعد، ولم يفكر أحد لماذا استبقت اللجنة الفريق أحمد شفيق رغم قانون العزل الذي يلزمها باستبعاده؟ .. فهو من وجهة نظر الجميع رجل ضعيف وفرص نجاحه تكاد تكون معدومة بالمقارنة باللواء عمر سليمان .. وهذا ما كان يريده المجلس العسكري ومن معه بالضبط.

وهكذا وقع الجميع في الفخ، ولم ندرك بأن الخطورة ليست في المرشح في حد ذاته، فالمرشح أياً كان هو يكفي لسقوطه وفشله أنه محسوب على نظام مبارك، ولكن الخطورة الحقيقية هي من يقف وراءه؛ فأي من كان المرشح، ووراءه دعم من مؤسسات الدولة العميقة وعلى رأسها المؤسسات الأمنية (جهاز أمن الدولة، المخابرات العامة المصرية، الشرطة) وهي مؤسسات لها ما لها من العلم والخبرة بالمجتمع المصري وخباياه، ومن تنظيم قوي مثل الحزب الوطني الديمقراطي بما لديه من أنصار وامكانيات هائلة، وشبكة مصالح متغلغلة في جسد الدولة والمجتمع تم نسجها عبر عقود، بالإضافة إلى تربة يتم تمهيدها منذ عام ونصف لقبول مثل هذا المرشح، كان لابد أن يكون معلوماً أنه هو الخطر الحقيقي.

وربما هو نفس الخطأ الذي وقع فيه الثوار في تعاملهم مع ترشيح جماعة الاخوان المسلمين المهندس خيرت الشاطر لانتخابات رئاسة الجمهورية؛ حين هاجم الجميع نكث الاخوان عن عهدهم بعد الترشح لانتخابات الرئاسة، وما أن استبعدت اللجنة خيرت الشاطر، هدأت الغضبة كثيراً واعتبروا أن مرشح الاخوان الدكتور محمد مرسي ليس له ما لخيرت الشاطر من قوة ونفوذ وبالتالي من فرص في الفوز، وتناسوا أن العبرة هنا في الداعم للمرشح؛ فحسابات انتخابات الرئاسة تختلف تماما عن حسابات انتخابات المجالس النيابية.

ومرة أخرى، عاد معسكر الثورة للتمزق والتناحر، في الوقت الذي اشتد فيه عود معسكر الفلول، وأخذ يستقطب المزيد من المؤيدين، وبدأ أنصاره وآلته الاعلامية يجاهرون بتبجح بعدائهم للثورة والثوار.

وجاءت نتيجة المرحلة الأولى من انتخابات الرئاسة التي يصفها الكثيرون بالصادمة والمفاجئة، وأراها طبيعية ومتوقعة لتعكس خطايا الثوار خلال العام ونصف الماضي، ولتضع مصر أمام خيارين أحلاهما مر؛ ما بين الانحياز لخطر الدولة الدينية الفاشية، أو الانحياز لدولة مبارك العسكرية الديكتاتورية.

وبقراءة متأنية لنتائج الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية، نرصد مشهدين متناقضين هما انعكاس لما شهدته المرحلة السابقة على الانتخابات من خطايا:
الأول (داخل معسكر الثورة):
جميع الأطراف خاسرة، في حين أن الثورة ناجحة وباكتساح .. كيف؟!

• جماعة الاخوان المسلمين
الطرف الأكثر تنظيماً والمفترض أنه الأقوى، خسر جزءاً كبيراً من كتلتهم التصويتية التي حصلوا عليها في الانتخابات البرلمانية قبل أقل من ستة شهور تكاد تصل إلى أكثر من النصف.

• باقي المرشحين وفي مقدمتهم الأكثر شعبية مثل حمدين صباحي وأبو الفتوح، حصلوا على أصوات تقل عن تلك الأصوات التي حصل عليها المرشح المحسوب على نظام مبارك، ومتهم بقل الثوار في موقعة الجمل، وعليه أكثر من ثلاثين بلاغ يتهمه بالفساد.

هذا من ناحية الجانب السلبي، أما الجانب الايجابي فهو في مجموع ما حصل عليه معسكر الثورة من أصوات من أدلوا بأصواتهم داخل وخارج مصر، وحتى داخل هذه الكتلة نلاحظ تفوق أنصار التيار الراديكالي الثوري على أنصار جماعة الإخوان المسلمين، وتفوقه على أنصار النظام السابق.

الثاني (معسكر الفلول)
جاءت النتائج مرضية له، تعطيه مزيداً من الثقة في النفس وفي المنهج والآليه التي يتبعها، كما أشعلت لديه الطموح في التفوق وشحذ الهمم، بعد أن بات الانتصار وشيكاً.

وهكذا، باتت الثورة المصرية عند مفترق طرق حقيقي وخطير، واختبار مصيري وجودي .. وصارت الكتلة التصويتية للناخبين المصريين مقسمة لأربعة أقسام:
الأول: كتلة تصويتية تتجه صوب مرشح جماعة الاخوان المسلمين، وهذه وصلت لأقصى درجة لها من درجات الحشد في الجولة الأولى.
الثانية: كتلة تصويتية لمرشح النظام القديم، وهي أيضاً وصلت لأقصى درجة ممكنة لها من درجات الحشد في الجولة الأولى.

الثالثة: كتلة تصويتية لم تشارك في العملية الانتخابية أساساً؛ سواء لأنها غير مقتنعة بجدوى العملية الانتخابية في ظل الأوضاع الراهنة في مصر، واعتراضهم على آداء المرشحين، أو هؤلاء الذين لا يعنيهم الأمر برمته واعتادوا على أن يكونوا مجرد مفعول به وليس فاعلاً. وموقف هذه الكتلة في اجماله هو تعبير عن ميراث السلبية التي زرعتها الأنظمة السابقة في مصر.

الرابعة: وهي الأهم، هي تلك الكتلة التي أعطت أصواتها تحديداً لمن يمكن أن نطلق عليهما مرشحي الميدان أو الثورة (الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح – الأستاذ حمدين صباحي).
ورغم أن هذه الكتلة التصويتية بداخلها تصنيفات وتنوعات متعددة ومعقدة، إلا أنها باتت بحسابات -حجمها التصويتي- الكتلة المرجحة في جولة الإعادة. وفي هذا السياق سعى كلا المرشحين إلى استقطابها إليه لا سيما وأنها أيديولوجياً وسياسياً بعيدة عن كلاهما، وتقف على مسافة واحدة تقريباً منهما.

هذه الكتلة الثورية كانت الأكثر صدمة ومفاجئة واحباطاً بنتائج الجولة الأولى، وأدركت متأخراً – كالعادة– أن انقسامها أفقدها قوتها، وكان سبباً في خسارتها رغم أغلبيتها، إلا أنها أمام خطورة الموقف الذي انتجته نتائج الجولة الأولى كان فرضاً عليها أن تستوعب الصدمة، وتوحد صفوفها، وتفكر بمنطق أقل الأضرار.

بحسابات المنطق كان أمام هذه الكتلة ثلاث خيارات:
الأول: التصويت لصالح محمد مرسي مرشح جماعة الإخوان المسلمين، بكل ما يحمله هذا من مخاطر التحول إلى الدولة الفاشية الدينية، إلا أنه في نفس الوقت –شئنا أم أبيا- البقية الباقية من مرشحي معسكر الثورة، صحيح ليس أفضلهم ولكنه محسوب عليهم، وقف بجوار الثوار في الميدان، واجه الخطر الذي واجههم، ونجاحه يعني نهاية نظام مبارك، ونجاح الثورة في احداث تغيير، ربما لا يكون التغيير المنشود ولكنه خطوة للأمام على الطريق، وبالتالي يعد ذلك الخيار بالأساس خياراً تكتيكياً من جانب الثوار.

الثاني: التصويت لصالح مرشح نظام مبارك، وإعادة انتاج الدولة العسكرية الديكتاتورية، وهو خيار كان مرفوض منذ البداية، لاعتبارات عديدة أبسطها أنه يعني نهاية ثورة 25 يناير 2011، بل والقضاء على فكرة التغيير والثورة من أساسها في عقل ووجدان هذا الجيل من شباب مصر.

الثالث: خيار المقاطعة، تبنى هذا الخيار جزء من النخبة داخل هذه الكتلة وكان على رأس هؤلاء الأستاذ حمدين صباحي دون أن يدعو مناصريه لتبنيه. ورغم وجاهته إلا أنه كان ينطوي على مخاطرة كبيرة، كان يمكن أن يجعلنا جميعاً نندم مستقبلاً؛ فمقاطعة القوى الثورية - المرجحة – تعني أن يصبح جماعة الإخوان المسلمين بمفردهم أمام معسكر الفلول المدعوم من الدولة المصرية العميقة بكل مؤسساتها وإمكانياتها، ونظام مبارك بما لهم من امكانيات وقدرات تنظيمية وقدرات على الحشد، وهو ما لا قبل لجماعة الإخوان المسلمين به، خاصة بعد أن تزعزعت الثقة بهم في الشارع المصري، وفقدوا الكثير من كتلتهم التصويتية، وهو ما سيؤدي في النهاية لنجاح الفريق أحمد شفيق.

أمام هذا الوضع المعقد والمتشابك الذي أسفرت عنه نتائج الجولة الأولى للانتخابات الرئاسية، والخطر المحدق الذي يهدد باجهاض الثورة، قررت الأغلبية العظمى من التيار الثوري من العلمانيين والليبراليين والاشتراكيين والشيوعيين والقوميين والوسطيين .... إلخ من التصنيفات أن تغلب المصلحة الوطنية لمصر على حساب الاعتبارات الأيديولوجية والانتماءات التنظيمية، وأن تغلب حسن الظن في جماعة الإخوان المسلمين على هواجسهم من سيطرة تيار الإسلام السياسي على الدولة المصرية.
وكانت رؤيتهم في ذلك أن التعاون والتفاوض مع من كان معهم في صفوف الثورة من أجل تحقيق أهدافها أوقع وأشرف من التعاون مع مرشح نظام مبارك.

وهكذا شهد المجتمع المصري حالة استقطاب غير مسبوقة في تاريخه بين معسكر يدعم المرشح محمد مرسي، ومعسكر يدعم المرشح أحمد شفيق، ومما زاد الأمر تعقيداً وتشابكاً أن الأغلبية في كلا المعسكرين كانت مخاوفه وليست قناعاته التي تقودهم لإتخاذ القرار نحو التصويت لمرشح دون الآخر، وما أصعب وأخطر أن يكون الخوف هو المحرك لسلوك الانسان!!.

هذه الحالة من الضبابية والالتباس الشديدين بقدر ما أربكت ثوار ميدان التحرير بقدر ما أعطت ثقة لأنصار ميدان (مصطفى محمود ثم العباسية وأخيراً المنصة بمدينة نصر)، لا سيما بعد أن أعلن عدد من النخبة ممن هم محسوبين على معسكر الثورة - بطريقة أو بأخرى - ممن تغلبت هواجسهم من وصول التيار الاسلامي للحكم، ومعتقداتهم الإيديولوجية على المصلحة الوطنية العليا، أو ممن رأوا ومعهم الكثير ممن صوتوا لصالح الجنرال أنه أخف الضررين لمستقبل مصر.

ولأن للثورة رب حافظ وشعب حامي، جاءت النتائج غير الرسمية للجولة الثانية للانتخابات في صالح محمد مرسي مرشح الإخوان المسلمين والمدعوم من معسكر الثوار. وقد أحسن الإخوان صنعاً حين أسرعوا بإعلان النتائج بعد ساعات قليلة مصحوبة بنشر الوثائق الرسمية التي تثبتها، وكأنهم بخبرة العقود الماضية استشفوا ما كان يحاك بليل من محاولات لتزوير النتائج، فأرادوا أن يقطعوا الطريق على هذا المخطط، ويضعوا الحقائق أمام الشعب، ويحتموا به.

كانت الوثائق التي نشرتها حملة الدكتور مرسي والتي تؤكد فوزه لا ترقى لمستوى الشك، وهو ما جعل حملة الفريق شفيق تبدو مستسلمة لها، إلا أن فلول نظام مبارك أرادوا الاستفادة من خبرتهم الطويلة في تزوير الانتخابات وتزييف إرادة الناخبين فشككوا في صحة النتائج والوثائق التي أعلنتها حملة الدكتور محمد مرسي، وشيئاً فشيئاً بدأنا نرصد حملة ممنهجة تسير في هذا الاتجاه، وبدأت الآلة الإعلامية للنظام القديم ترسل بإشاراتها بما يوحي بإمكانية فوز الجنرال أحمد شفيق.
بدأت هذه الحملة تؤتي ثمارها؛ فعاد المتحولون/المنافقون من جديد من نجوم ومشاهير الفن والرياضة والسياسة الذين يعلنون تأييدهم للجنرال، ويلعنون الثورة والثوار، كما أن القلق والتوجس بدأ يدب في صفوف الثوار، وأدركوا أن ما يحدث ما هو إلا تمهيد المسرح لقبول إعلان فوز الجنرال، وبالونة اختبار لرد فعل الطرف الآخر. هنا فهم الثوار الرسالة وأظهروا رد الفعل وأعلنوها أن أي تزييف لإرادة المصريين لن يسمح به مهما كانت التضحيات، وكعادته ميدان التحرير قلب الثورة النابض وضميرها احتضن الثوار ومنه أكدوا وقوفهم ضد أي محاولة لتزييف إرادة الشعب.

قابل تماسك الثوار وإصرارهم على حقهم ضغط من الطرف الآخر وصل إلى مداه، فبدأ الإعلام الموالي للنظام السابق والأجهزة الأمنية المتخصصة في نشر الإشاعات تتحدث عن مخططات لإشاعة العنف والفوضى في مصر، ووجود جماعات مسلحة موالية لتيار الإسلام السياسي ممولة من الخارج ومستعدة لفعل ذلك، وهي نفس الفزاعة التي استخدمها مبارك من قبل حين كان يردد (إما أنا أو الفوضى)، وللتأكيد على ذلك شاهدنا تواجد لقوات الجيش ومدرعاته في الشوارع والميادين بصورة لم تكن موجودة أيام الثورة نفسها، وإمعاناً في حبك المخطط على الجماهير بدأت الشائعات تتحدث عن تخزين المواطنين للسلع التموينية وكأن الوطن مقبل على حرب.

ويبدو أن صمود ميدان التحرير كان أقوى من كل المخططات والمؤامرات، فجاء الإعلان الدستوري المكمل ليكبل صلاحيات الرئيس المنتخب، ويجرده من صلاحياته الحقيقية، ويكرر معه نفس ما حدث مع مجلس الشعب المنتخب حين فعلوا معه كل شئ حتى يظهر فاشلاً عاجزاً أمام الجميع، ونجحوا في ذلك وساعدهم الإخوان المسلمين بخطاياهم .. وكان معنى هذا أن المجلس العسكري بدأ فعلياً يستعد لمرحلة ما بعد فوز محمد مرسي.

وبالفعل أعلنت النتيجة رسمياً يوم 24 يونيو 2012 لتؤكد فوز محمد مرسي، بعد أن حبس المصريون عبر العالم أنفاسهم على مدار (45 دقيقة) استغرقتها اللجنة لإعلان النتيجة.

كنت أتابع لحظة إعلان النتيجة على قناة CBC حيث كانت شاشتها مقسمة لعدة أقسام، واحد للجنة الانتخابات، وثاني لحملة مرسي، وثالث لحملة شفيق، ورابع لميدان التحرير، وخامس لتجمع المنصة بمدينة نصر، وما أن أعلنت النتيجة بفوز الدكتور مرسي حرصت على رصد ردود الأفعال، وكانت سعادتي بانتصار ثوار ميدان التحرير وبسطاء الشارع المصري وفرحتهم أكبر بكثير من سعادتي بنجاح الدكتور مرسي الذي انتخبته مضطراً، لحظتها دارت بذهني صور كثيرة أبرزها مشاهد موقعة الجمل التي كان لي شرف المشاركة فيها، وشهدائها ومصابيها، صور شهداء الثورة، وشعرت وأنا أتابع ردود فعل الميدان وكأن أرواح الشهداء ترفرف عليه فرحة مبتهجة مسرورة بالثوار، وكأنني لحظة تنحي المخلوع مبارك، وقتها فقط ارتاح ضميري وشعرت بالرضا وشعرت أنني فعلت الصواب بتصويتي لصالح الدكتور مرسي، وأدركت أن انحياز الثوار للدكتور مرسي رغم اختلافهم الاستراتيجي معه كان انحيازاً للثورة .. وها هو الميدان يعلن انتصاره .. وها هي الثورة تتحرك خطوة للأمام بعد أن توقفت عند يومها الثامن عشر (يوم تنحي المخلوع)، وأصبح نجاح مرسي يومها التاسع عشر، فمتى يأتي اليوم العشرون؟ متى تتم الثورة رشدها؟ هل سنسير بنفس المعدل الذي سارت منذ يومها الثامن عشر؟ هل سيتعلم الإخوان الدرس، ويعلمون أنهم لا شئ وخاسرون بدون الثوار؟ هل سيجعلون الثوار يندمون على خيارهم؟ أم يوحدون الصفوف من أجل مصر وتحقيق مطالب الثورة؟.