الإخوان والديمقراطية: الفرص والمخاطر
فرض الإخوان وجودهم بقوة على الساحة السياسية. وكلما زاد حضورهم زاد التساؤل عن تأثير هذا الوجود على مستقبل البلاد السياسى. وأصبح من مهام أى تيار أو حزب أو فكر سياسى أن يحدد تقييمه وموقفه من ظاهرة صعود الإخوان خصوصا وتيار الإسلام السياسى عموما، وخلفية ذلك المتمثلة فى “أسلمة” قطاعات واسعة من الفئات الاجتماعية الوسطى بالذات.
وبصفة خاصة تشير الأحداث الجارية إلى موقف ديمقراطى مُعلن للجماعة، يتمثل فى مظاهراتهم الحاشدة، ومطالبهم الديمقراطية أثناءها، وتقبلهم التضحيات التى تفرضها عليهم السلطة. كما حاولوا أن يُظهروا قدرا من الود تجاه القوى الديمقراطية الأخرى، وصلت مثلا إلى الاشتراك الرمزى فى حركة “كفاية” التى يتحدث باسمها مسيحى، هو “جورج اسحق”. وأكد قادة الإخوان مرارا أنهم يقبلون أن يفسحوا مجالاً لغيرهم إلى جانبهم لكى تتوفر شروط سياسية أفضل لنشاطهم. وقبل ذلك أعلنت بعض الجماعة الإسلامية الأكثر عنفا فى وثائق مشهورة تخليها عن العنف، وقبولها بالعمل السياسى السلمى. والمسألة المطروحة هنا هى فهم مغزى هذه التحولات، وطبيعة طموح الإخوان إلى قيادة الحركة الديمقراطية فى مصر ضد النظام الاستبدادى، اعتمادا على ثقلهم العددى الكبير، وهو ما يعتمد أساسا على فهم طبيعة وحدود الديمقراطية التى ينادون بها. وبناء عليه تحديد الموقف الذى يجب أن تتخذه التيارات الديمقراطية منهم.
(1) تاريخيا، كان صعود الإسلام السياسى عموما، والإخوان أيضا، مشكلة، بل أزمة ملحة، بالنسبة لكل تيار ديمقراطى ويسارى. فللإخوان أولا تاريخ طويل من العداء الظاهر والباطن للوفد واليسار، إلى حد التحالف مع السلطة الاستبدادية، ممثلة فى الملك فاروق (وكانت استعراضات الإخوان تخرج هاتفة باسمه)، وأحزاب الأقلية، حتى الأحرار الدستوريين الأكثر علمانية من الوفد، ثم التآمر مع عبد الناصر حتى انتصاره على المعارضة الديمقراطية فى مارس 1954، ثم السادات الذى سعى إلى بناء “بديل إسلامى” لسحق اليسار فى الجامعة. وفى المواجهات تبين بوضوح أن التيار الإسلامى يرحب باستخدام العنف ضد معارضيه، باستخدام الجنازير والأحزمة، بل والمطاوى أحيانا، كأسلحة مشروعة، واستباح بعضهم قذف الناس من نوافذ مدرجات الجامعة. أضف إلى ذلك تاريخ الاغتيالات السياسية التى تقاسمها هذا التيار مع الحزب الوطنى القديم (منذ 1911 وحتى انقلاب يوليو)، وشارك فيها بعض الضباط الأحرار.
أضف إلى ذلك ما قامت به التيارات الإسلامية الأكثر عنفا فى طول البلاد وعرضها، من هجوم على السائحين، وصل إلى استباحة التمثيل بالجثث فى مذبحة الأقصر، إلى الهجوم على الكنائس ومتاجر الذهب التى يملكها المسيحيين، ومحال الخمور ونوادى الفيديو، واغتيال سياسيين حكوميين وكتاب ومفكرين، مثل فرج فودة، ونجيب محفوظ (الذى شفى لحسن الحظ)، ومكرم محمد أحمد.
(2) والمشكلة الأعمق أن هذا العنف مبنى من الناحية الإيديولوجية على اعتقادهم بحقهم المطلق بلا قيد ولا شرط فى فرض رؤيتهم تحت عنوان “إعلاء كلمة الحق”. ويتبين ذلك بوضوح أكثر فى مواقف أخرى لا تتميز بالعنف بالذات. فالجماعات الإسلامية فى السبعينيات وأوائل الثمانينيات، وكان معظمها فى القاهرة والوجه البحرى تحت قيادة الإخوان، اتجهت بعد نجاحها الساحق فى انتخابات الاتحادات الطلابية إلى منع كل نشاط للقوى الأخرى، مهما كانت محدودة الوزن والتأثير، فاستخدموا سلطتهم فى إخماد أى صوت غير صوتهم، برفض نشر مجلات الحائط المخالفة لهم، وتمزيق ما صدر منها ضد إرادتهم. كما تولوا توجيه النشاط الجامعى كله وموارده وفقا لرؤيتهم، حتى أن بعضهم قصر النشاط الطلابى المسموح به فى المجال الفنى على التطريز للطالبات والخط العربى للطلبة! وقد عانت التيارات غير الإسلامية بدورها من هيمنة الإخوان الثقيلة فى الثمانينيات وما بعدها على كثير من النقابات المهنية، فتميز استخدامهم لسلطتهم بالسلوك نفسه.
تستند هذه التصرفات الديكتاتورية على اختلاف درجات عنفها إلى ترسانة فكرية وإيديولوجية وفقهية تبررها تماما، لها عندهم وضع الحُجية مُطلقة الصحة، وتنبع أصلا من إحساس راسخ بأن من حقهم أصلا وابتداء إلغاء الآخر، “الكافر” أو “الضال”، بأية طريقة متاحة من طرق الإلغاء. وليس لديهم أى رادع داخلى عن ذلك سوى مصلحة هذه الجماعة الإسلامية السياسية أو تلك، لأنها فى عرف أعضائها حاملة نور الحق، بألف لام التعريف، ووكيل مصلحة المسلمين، بل ومصلحة العالم كله كما صرحوا ويصرحون حتى الآن. وربما كانت أخف صور هذا الادعاء إعلان مؤسس الإخوان أن كل انتقاص من منهج الجماعة “نقص من الفكرة الإسلامية الصحيحة”، بما يعنى مصادرة الدين لصالح الجماعة، وصولا إلى إعلان استعداده، إذا توفر للإخوان ثلاثمائة كتيبة، أن يغزو بهم “كل عنيد جبار”، وأنهم سيُنذرون قبل أن يهجموا “فى كرامة وعنف”. ولكنها تصل إلى استحلال إزهاق الأرواح فى كتابات تنظيمات الجهاد على اختلافها. وبرغم إن الإخوان منذ أواخر الستينيات انقطعت صلتهم بأعمال العنف، فإن منطق العنف الكامن يتضح من دفاع الشيخ الغزالى، الداعية الإخوانى، عن قتلة فرج فودة عند محاكمتهم. كما تتضح فى غياب صدور أى استنكار إخوانى لاستباحة الزرقاوى وأعوانه، باسم الإسلام، قتل عدد هائل من العراقيين، منهم عمال وزبائن مخبز تجرأ ووضع لافتات مؤيدة للانتخابات العراقية الأخيرة.
(3) وبالنسبة للإخوان فقد مروا بنقطة التحول المهمة فى عهد عبد الناصر، حيث رفضوا فكرة العنف المسلح (حتى ولو أيدوا عنف تنظيمات أخرى كما فى حالة فرج فودة). وكانت الجماعة فى عهد البنا ذات طابع مزدوج: جماعة دعوية وسياسية وخدمية، ولها فى نفس الوقت تنظيم سرى مسلح، وكلاهما برئاسة البنا، الذى دفع ثمن ذلك باغتياله بعد أن أودى تنظيمه السرى بحياة رئيس وزراء مصرى. وقد طور سيد قطب، رئيس قسم الدعوة فى تنظيم الإخوان، فكرة التنظيم السرى إلى منتهاها لتصبح إيديولوجيا كاملة، لا مجرد ميل إلى العنف أو تبرير شرعى له، ومنه انبثقت “تنظيمات التكفير” على اختلافها.
وقد واجه الإخوان هذه التنظيمات التكفيرية فى السجون، فأصدر الهضيبى، خليفة البنا، كتاب “دعاة لا قضاة” ليُنهى به فقهيا مبدأ العنف المسلح عند الجماعة، بغير تبرؤ معلن من سيد قطب. ومع ذلك ظل الإخوان فى هذا الكتاب يقولون بأن الإسلام دين ودولة، ويفترضون أنهم الناطقون بصحيح الإسلام، ويرفعون مبدأ الحاكمية. أما رفض فقه العنف الإسلامى فقام على مبدأ “إننا دعاة لا قضاة”، بمعنى أننا لا نحكم على فرد بعينه بالكفر، وإنما نحدد فحسب الأفكار الكافرة. فالكتاب لا ينتمى بأى حال إلى الإصلاح الدينى، فلا يستكمل مثلا ما قام به الشيخ محمد عبده أو يتجاوزه. فالإخوان “دعاة لا قضاة”، ولكنهم دعاة أصولية تشمل قيام دولة دينية. وأهمية هذه المسألة أن الإخوان إذا وصلوا إلى السلطة سيكونون أكثر من قضاة، سيكونون مشرعين، وبالتالى سيحكمون على المجتمع ككل وكأفراد.
كذلك تغيرت أفكار الجماعة الإسلامية القطبية المنشأ. ففى كتب “المراجعة” التى أصدرها قادتها، كانت النقطة “الشرعية” البارزة هى أنه تبين أن العنف ليس فى مصلحة “الإسلام”. وبالمنطق لا يوجد مانع نظرى، أى “شرعى”، فى العودة إليه إذا أصبح فى مرحلة تالية فى مصلحته من وجهة نظرهم.
وفى الحالتين، يظل موقف التنظيمات السياسية الإسلامية قائما فى حده الأدنى على الدعوة لدولة تسلطية باسم الدين. وفى ظل هذا الوضع يكون على كل عضو منهم أن يستغل سلطته، سواء فى مدرسة أو اتحاد طلابى أو نقابة، ناهيك عن وزارة، فى وأد أفكار وشل حركة “الضالين”، أو فرض “صحيح الإسلام” كما يفهمونه عليهم، وإلا اعتُبر تصرفه بمثابة خيانة للدين، أو “موالاة للمشركين” تعذبه وتُثقل ضميره، فهو مضطر أن يكون ديكتاتورا بأمر إلهى.
(4) الديمقراطية الإخوانية الحالية: فى الثمانينيات طور الإخوان أفكارهم لتشمل القبول بتعدد الأحزاب، بشرط أن تكون جميعها إسلامية. أما فى وثيقة الإصلاح الصادرة فى مارس 2004، فقد “تواضعوا” إلى القبول بدستور إسلامى “فحسب”. فالوثيقة لا تضع شروطا بشأن تشكيل الأحزاب، ولكنها تشترط أن يقوم “نظام برلمانى دستورى ديمقراطى فى نطاق مبادئ الإسلام”، ونظام تعليم يتفق مع ما تسميه الجماعة “ثوابت الأمة وخصوصيتها الثقافية وميراثها الحضارى”، مع “دعم المعاهد الأزهرية والكليات الشرعية”، و”إحياء نظام الحسبة”، و”تحقيق التدين والربانية فى المجتمع”.
ويطفح الطرح الإخوانى لنظامهم البرلمانى بمقولات ديكتاتورية واضحة. فالربانية (التى هى اسم آخر للحاكمية)، والدستور الإسلامى، يفرغ قبول التيارات السياسية الأخرى من أى مضمون، حيث تصبح أحزابها فى الحقيقة أشبه بـ”أسرى حرب” تعمل داخل إطار معاد مؤسسيا لهم، وليس لهم بالطبع حق تغييره. أما الحسبة فستقلب حياة الناس جحيما، فقد تكون أشبه بنظام المطوعين الذين كانوا يطاردون الناس فى شوارع السعودية ليحددوا لهم سلوكهم، حتى كُسرت شوكتهم مؤخرا، فلم يحدث أن استنكر الإخوان هذا النظام. وفى الحد الأدنى سيُستخدم فى قمع الحرية فى مجالات الفكر والأدب والفن، على نحو ما حدث لنصر حامد أبو زيد.
وإذا كان ضمير عضو الإخوان لا يستريح إلا بفرض “كلمة الحق” على هذا النحو. فإن هذا الضمير يشكل تهديدا خطيرا لضمير المجتمع ككل. فالمجال العام سيكون محكوما تماما بإيديولوجية الجماعة، أكثر بكثير مما كان محكوما بالميثاق فى عهد عبد الناصر. وستتسع الهوة بين معتقدات الناس وممارساتهم الخاصة، وبين ما يجب أن يظهروا عليه فى ظل “إحياء الحسبة”. ولعل هذا يفسر للإخوان لماذا يكرههم الكثيرون، سياسيون وغير سياسيين (على غرار السؤال الذى طُرح فى أمريكا). فهم شديدو الوطأة، يدفعون الآخرين إلى النفاق حماية للنفس والمال والعرض (أليس حكم التطليق الخاص بنصر حامد أبو زيد اعتداء على عرضه وعرض زوجته؟).
واتساقا مع سلطويتهم الجذرية فإنهم يطالبون دائما بالمزيد من التدخل فى حريات الفكر والإبداع: يطالبون بحق الأزهر فى المصادرة، وبواجب الدولة فى منع ما يخالف “ثوابت الأمة”، على حد قولهم. وبالعبارات الدبلوماسية التى صاغوها فى وثيقتهم: “ترشيد دور السينما والمسرح بما يتفق مع مبادئ الإسلام”. ويتطلب إعمال هذا النص تشكيل هيئة تعتبر نفسها قيمة على مبادئ الإسلام وقادرة على تطبيقها، تتولى منع ما تعتبره مخالفا لهذه المبادئ وتفرض نفسها وصية على الجمهور، فتمنعه من الفرجة عليه. فلا المبدع حر ولا المتلقى، وإنما القيمون على العقيدة. وقس على ذلك أيضا مطالبتهم بأن تتأسس “مفردات الثقافة القائمة ووسائلها من صحف ومجلات وإذاعة وتلفاز” على “المبادئ والقيم الإسلامية، تربية للفرد… لحمايته من التغريب والتغييب”. فالأفراد ليسوا مصدر السلطات، وإنما هم قاصرون تحت الوصاية، خاضعون للتربية والحماية، التى ستفرضها عليهم الجماعة باسم الإسلام. وبالمثل بالنسبة لصياغة التعليم العام.
وفيما يتعلق بالأقباط وأتباع الأديان “السماوية المعترف بها” (فقط)، يقول الإخوان أنهم يكفلون لهم “حرية الاعتقاد والعبادة”، لا الدعوة، بينما الأئمة والدعاة تُطلق لهم “حرية شرح مبادئ الإسلام وشريعته وقيمة وأخلاقه وتنظيمه لشئون الحياة”، وخصوصا “شموله لتنظيم كل جوانب الحياة”، أى الحاكمية مرة أخرى (والعبارة مأخوذة نصا من سيد قطب). هذا أقصى ما تفتق عنه الذهن “الديمقراطى” للجماعة: دستور جمهورية برلمانية على مقاسهم، يعطيهم بحكم بنيته نفسها وضع الأفضلية، مع عناية بالصياغة تحاول أن تخفى النزعة السلطوية العميقة التى تكتنف فكر الجماعة وكوادرها. ويعطينا البرنامج فكرة عن مدى ضحالة الديمقراطية فى فكر الجماعة، كما يثير تمويه الصياغة الشك العميق حول مصداقية شعاراتها الديمقراطية المرفوعة الآن.
(5) وتكمن جذور المشكلة فى رؤية التنظيمات الإسلامية السياسية للدين، باعتباره أساسا شريعة. وقد نجحت التنظيمات الإسلامية السياسية فى تسييد التفسير الفقهى للدين، الذى يعتبره فى الأساس مجموعة من الأوامر الإلهية تبحث عن طاعتها، وبالتالى يكون تتويجها هو الدولة الإسلامية، أو الخلافة، باعتبار الدولة عموما أداة العنف الشرعى التى تُلزِم بالطاعة. وفى القول بأن الإسلام عقيدة وشريعة، تكون المسألة عمليا فى فكر الإسلام السياسى استخدام العقيدة كمصدر لمشروعية المطالبة بتسييد الشريعة. ومع ذلك ليس هذا سوى جانب واحد من الإسلام التاريخى. فالصوفية، تلك الحركات الإسلامية الضخمة تاريخيا وحتى الآن، تعتبر الإسلام دليلا روحيا يفتح مجالا للإنسان للتآلف مع المجهول والمطلق والقدر، ويقدم إشباعا روحيا وتأمليا لمريديه وأتباعه يغترف منه كل منهم بقدر احتياجه ووفقا لرؤيته.
ويمكن القول بأن هذا التأكيد اللجوج من جانب التيار السياسى الإسلامى على أن ثمة إسلام واحد، محوره فكرة الدولة الإسلامية، لا يُقصر الاضطهاد الذى يوقعه على غير المسلمين والمجددين الأكثر انفتاحا مثل نصر حامد أبو زيد وجمال البنا وأحمد صبحى منصور فحسب، ولكن أيضا كل تيار إسلامى آخر. بل هو يشمل باضطهاده ماضى الحضارة الإسلامية ذاته. فقد أدانت “الصحوة الإسلامية” الفلسفة الإسلامية، و”البدع الصوفية”، وطالبت صراحة بـ”تنقية التراث” الإسلامى نفسه من كل ما يخالف فقهها، بما فى ذلك “ألف ليلة وليلة”، وعموما ما يمكن أن نسميه الكتابات “الإروتيكية” التى كتبها بعض من ألمع رجال الحضارة الإسلامية بما فيهم الإمام السيوطى. نحن أمام دعوة لا تبقى ولا تذر، ولا توفر أحدا ولا تحترم شيئا يخرج عن نطاق رؤيتها الضيقة.
(6) والخلاصة أن رؤية الإخوان للديمقراطية أقرب إلى تقنين انتخابى للوصاية على النخبة والجمهور، فى إطار رؤية أشمل تحلم بالوصاية على البشرية كلها! فالديمقراطية تبدو فى فكر الجماعة حتى الآن مجرد أداة مناسبة لـ”الاستعلاء بالحق” (مثلها مثل مراجعة الجهاديين). ومن هنا تم تبنيها من منطلق براجماتى. فالأمر ببساطة أنه نظرا لأن دعوتهم منتشرة فإن طريق الانتخابات يتيح لهم مشروعية، يعتبرونها حديثة وديمقراطية، تبرر أمام الآخرين وضع أيديهم الثقيلة على مخالفيهم والتحكم فيهم وإعادة صياغتهم على صورتهم ومثالهم، أو التضييق عليهم بحرمانهم من حقوق المواطنة الحقيقية، سواء كانت أقلية دينية أو تيارات سياسية أو فكرية.
التيار الإسلامى والنظام الاستبدادى:
المشكلة الأخرى فى علاقة الإخوان بشعاراتهم الديمقراطية الرنانة المستجدة، أن علاقتهم بالنظام الاستبدادى القائم ليست علاقة عداء وتناقض. فتاريخيا لم تكن علاقتهم بالنظام منذ تأسيسه عام 1952 عدائية دائما. فبرغم أنه قمعهم بعنف وقسوة من وقت لآخر، خصوصا فى 1954 و1965، كانت له أيضا “أياديه البيضاء” عليهم، فقد أطلق يدهم فى الجامعات، حتى حكموا المدن الجامعية، وأقاموا بأموال الدولة معسكرات طلابية ضخمة برئاسة “أمراء” الجماعة الإسلامية، وأفسح لهم بشطب مرشحى اليسار وإجهاض التنظيمات اليسارية بانتظام، وأتاح لهم ممارسة ديكتاتورية محدودة على الطلبة بعد نجاحهم فى الاتحادات الطلابية. وأغضى النظام عن فرض أية رقابة على مالية الإخوان، على خلاف الأحزاب “الشرعية”، ربما اكتفاء بحظر حزبهم “رسميا”، وأعلن شعارات مواتية لهم من قبيل “الرئيس المؤمن”، و”دولة العلم والإيمان”، و”رئيس مسلم لدولة مسلمة”، وغيَّر الدستور وفقا لرؤيتهم للإسلام، لتصبح “الشريعة هى المصدر الرئيسى للتشريع”، وصولا إلى وضعهم شبه الشرعى الحالى، حيث لهم مقر وجريدة أسبوعية هى “آفاق عربية” وشركات ومكتب إرشاد معروف للكافة، وفرص متاحة للترشيح بشكل غير رسمى فى الانتخابات ودخول مجلس الشعب منذ 1984.
وبصفة عامة يمكن القول بأن حساب المكاسب والخسائر الإخوانى فى ظل نظام يوليو 1952 وحتى الآن رابح. فبصرف النظر عن حساب الموازنة بين فترات القمع وفترات السماح والتعاون، كان نظام يوليو نفسه، وحتى الآن، أكثر مواتاة فى بنيته لنشاط الإسلاميين بالمقارنة بأى تيار سياسى آخر. فمن جهة كان معظم الضباط الأحرار إخوانيين سابقين وأعضاء فى النظام الخاص، ومن هنا ظل هناك رافد قوى فى إيديولوجية الضباط يرجح إيديولوجية الإسلام السياسى، بدءا بكثافة استخدام الدين فى إضفاء الشرعية على النظام، وشعارات مثل “العزة والكرامة” (كان البنا أول من أطلقها). وفى هذا السياق تم إنشاء أول إذاعة إسلامية وتزايدت البرامج الدينية فى أجهزة الإعلام والصحافة الحكومية، واستضافت أنصار الجماعة وغيرهم من الأصوليين، وتم تطوير مؤسسة الأزهر ومنحها المزيد من الصلاحيات، وأضيف لها المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، ومدينة البعوث، والمعاهد الأزهرية، واتُّبعت سياسة لتحديث الأزهر، بدءا بتدريب خريجيه فى الخمسينيات على بعض العلوم الحديثة بهدف بثهم داخل جهاز الدولة الإيديولوجى (فيما عُرف بالوحدات الريفية المُجمعة)، وانتهاء بقانون إصلاح الأزهر (الذى يتبنى الإخوان مثيله الآن فى وثيقتهم للإصلاح فى مارس 2004)، لتخريج “المهندس المسلم والمدرس المسلم والطبيب المسلم”، أى المتبنى للإسلام الفقهى. وكذلك توظيف العناصر غير المعادية للنظام من الإخوان فى مناصب عليا (مثل الشيخ الغزالى). فكان كل ذلك بمثابة التربة المهيأة التى مهدت لـ”الصحوة الإسلامية” فى السبعينيات.
والأهم من ذلك اكتساب نظام الدولة ككل طابعا شبيها بتصورات الإخوان، بدءا بنظام الاستفتاء الشبيه بنظام البيعة، و”الولاية” المطلقة الصلاحيات المستمرة عمليا حتى الوفاة، ومرورا بالطابع “الزبونى”، أو الخدمى للدولة الذى أصبح رسميا هو النشاط “السياسى”، أى تقديم خدمات محلية وشخصية مقابل التأييد، وهو نفسه أسلوب النشاط “السياسى” الإخوانى، (الذى يمارسوه بأموالهم، وأموال المؤسسات التى تقع فى أيديهم، مثل الاتحادات الطلابية والنقابات)، ووضع “دين سياسى” مقدس للدولة، ممثلا فى “الميثاق”، لا يجوز النطق إلا فى إطاره، وليس انتهاء بمحو فكرة المواطنة والحرية الفردية لصالح فكرة “الرعية”، المسئولة من الراعى، والتى عليها أن تلتزم بمثل ما يسمى الآن “ثوابت الأمة”، بمزيج من الإرهاب وتوزيع المنح والهبات، فضلا عن القضاء على استقلال المجتمع والقضاء على الأحزاب، أو الحد الشديد من حركتها، بحجة الحيلولة دون فرقة الأمة أو اندساس المصالح الأجنبية، وخصوصا الغربية. وباختصار يوجد الشىء الكثير المشترك بين النظام والإخوان، مما لا يتسع المجال للإفاضة فيه.
ولهذا السبب تقتصر مطالب الجماعة، وهو أمر مُعلن لا نستنتجه، على الإفساح لها داخل نفس النظام القائم. ومن هنا تصريح المرشد العام بأن مبارك ولىّ الأمر، وتصريحات قادة الجماعة بأنهم ليسوا أعداء نظام الحكم الحالى، واقتصار مطالبهم على إفساح مجال أوسع لهم، “وحزب كمان”، كما قالت مظاهراتهم. وفى مواجهة حركة “كفاية”، أعلنوا أنهم مع “الإصلاح”، لا “التغيير”. وفى ضوء ما سبق ليست هذه المواقف مجرد تقية بهدف إرضاء للنظام وتخفيف غضبه، وإنما لها أسسها الراسخة فى إيديولوجية “الاستبداد الديمقراطى” الإخوانية والعلاقة التاريخية والعضوية بالنظام.
طبيعة جماعة الإخوان الاجتماعية:
(1) تتمتع الجماعة بثقل ملحوظ داخل الفئات الوسطى، ويكفى ثقلها الظاهر فى النقابات المهنية والجامعات دليلا. كما أنها تمتلك صلات قوية مع قطاعات من رجال الأعمال. ومظهر أعضائها العام فى المدن الرئيسية أنهم من “الأفندية”، لا الفئات التقليدية. فقد تميزت الجماعة منذ عهد البنا بالتوجه إلى القطاعات الحديثة من المجتمع، إلى جانب ثقل ملحوظ داخل البرجوازية الصغيرة التقليدية. وحين أُعيد بنائها فى السبعينيات، بعد الضربة الناصرية، اعتمدت أساسا على طلبة الجامعات، الذين أصبحوا مهنيين لاحقا، وأموال إخوان السعودية. واتساقا مع ذلك فإن أحد أجنحتهم على الأقل يحمل خطابا تحديثيا، محوره فكرة الفئات الوسطى فى مصر: النهضة. فمثل كل جماعة أصولية فى العالم ليس الإخوان أبناء الماضى التاريخى إلا من حيث مصدر المشروعية الإيديولوجية، ولكنهم لا يسعون لإعادة عقارب الساعة إلى عهد الرسالة (على خلاف فكرة شكرى مصطفى).
(2) وبقدر انغراس الإخوان داخل الفئات الوسطى والعليا، وبقدر ميل برنامجهم للتحديث المحافظ، بقدر ما يبتعدون عن الخيار الفاشى. وقد اتُّهمت الجماعة تقليديا فى أوساط اليسار (لا أوساط النظام الذى يشبهها) بالفاشية. وهو أمر ربما كان له مبرر أقوى حين كان للجماعة تنظيم مسلح خاص. أما الآن، فالمؤشرات تقول أن الإخوان بعيدين عن هذا:
يقوم الخيار الفاشى على تجنيد جمهور واسع غير منظم تحت شعارات تتبنى خطاب الطبقة الحاكمة فى مرحلة تحللها وتمده على استقامته بشعارات شعبوية عامة عاطفية (تستند لفكرة الهوية عادة)، وتكوين تشكيلات عنف تنطلق من الإيمان بهذه الهوية (بتفوق الجنس الآرى مثلا فى ألمانيا). وتنمو الحركات الفاشية بسرعة فى ظل استقطاب اجتماعى وسياسى حاد، تتولى حسمه بعنفها. ولعل هذا الخيار الفاشى للحركة الإسلامية يتضح بأكبر قدر فى جماعات العنف المسلح التى أباحت لنفسها مهاجمة الكنائس ومتاجر المسيحيين و”العلمانيين الملحدين”، الخ، ولجأت إلى الطبقات الرثة لتجند منها كثيرين من حملة “السلاح الإسلامى”. بينما الملاحظ أن هذا الشكل من العنف لم تمارسه الجماعة منذ إعادة بنائها، كما أن القدر الذى مارسته من العنف فى الجامعات فى السبعينيات كان أقل بشكل ملحوظ من الجماعات الجهادية، ويتجه للانخفاض لصالح عنف سياسى مؤسسى محوره تحقيق انتصار انتخابى مصحوب بتغلغل مستمر داخل جهاز الدولة.
ويفسر هذا سلوك الإخوان الأقرب للمهادنة والحلول الوسط مع النظام. ولك أن تتخيل الفارق لو كان لليسار خُمس هذا العدد الكبير من الأعضاء والمتعاطفين. والإخوان أيضا ليس لهم خطاب تعبوى واضح ضد طرف من الأطراف، بل واجهوا فى الجامعات فى السبعينيات تنظيمات العنف الإسلامى الشعبوية ورفضوا منطقها، وتعرضوا أحيانا لاعتدائها وتكفيرها لهم. ويبدو من طبيعة الفئات التى يخاطبونها فى المجتمع أنهم سيظلون على موقفهم من رفض الخيار الفاشى. فهذا الخيار، وما يصحبه من دخول الشرائح الرثة إلى الحلبة السياسية، يشكل خطرا عليهم هم أيضا. وهنا يجب أن نلاحظ أن استبعاد الشرائح الرثة سمة مشتركة بين كافة حركات الطبقة الوسطى وتياراتها.
كما أن الخيار الفاشى بصفة عامة ليس مرجحا فى المدى المنظور فى مصر، لغياب شرط الاستقطاب الاجتماعى والسياسى. ولا أدل على ذلك من تراجع جماعات العنف الإسلامى نفسها، وعجز حزب العمل الاشتراكى المتأهب دائما لإطلاق الخطابات الفاشية عن بسط نفوذ يُذكر. ويدل السياق العام للتطور السياسى على أن سياسات الهوية بمجملها تنحسر، وأن بؤرة الصراع السياسى عموما فى مصر (وغيرها) تنتقل من التركيز على الهوية العربية وقضاياها، وحتى الهوية الإسلامية العامة (قارن مثلا الموقف من قضية الشيشان بالمقارنة بالبوسنة)، إلى الديمقراطية والمطالب الاجتماعية الحقيقية. كما أن الأسس الأعمق لسياسات الهوية، وأولها الريع السياسى الناجم عن دور مصر السابق فى قيادة المشرق العربى والتوسط فى حل نزاعات المنطقة يتراجع بسرعة.
وبرغم أنه من المحتمل فى حالة تهديد هيمنة الإخوان الكبيرة على شرائح مهمة من الطبقة الوسطى (مثلا بنمو قوى ليبرالية ويسارية أكثر تقدما وصعود حركات عمالية كفاحية)، أن يتغير موقف الإخوان من العنف فى المستقبل، فإن تحول الإخوان إلى الخيار الفاشى يظل مستبعدا. بل يمكن القول بأن الإخوان يمثلون داخل الحركة الإسلامية خيارا مختلفا عن الحركات الفاشية الدينية.
(3) وبسبب طبيعة تنظيم الإخوان وجمهورهم الاجتماعية، فإنهم يحملون موقفا أكثر تقدما بالمقارنة مثلا بالتبليغ والدعوة والتيار السلفى، وكلاهما لعب دورا مهما فى توريد كوادر للتشكيلات الإسلامية شبه المسلحة. وبالتالى يمكن للإخوان بانتمائهم لشرائح الطبقة الوسطى المرتبطة بالتحديث وفكرة النهضة أن يلعبوا دورا إيجابيا فى التعامل مع أنصار هذه التيارات ويحدوا من ترييف الحركة الإسلامية ككل. ولأنهم يحملون خطابا له مرجعية مشتركة مع هذه التيارات، ومع جماعات العنف، فهم أقدر من الاتجاهات المدنية والليبرالية الخالصة على الحوار معهم. فبالنسبة للحركة الإسلامية ككل، تحتل رجعية الإخوان موقعا أكثر تقدما من غيرهم.
(4) من الناحية الاقتصادية تقدم الجماعة برنامجا ليبراليا، مع بعض التدخل من جانب الدولة، ولكن فى اتجاه محافظ. فالمطروح لمكافحة الفقر هو مساعدة الأغلبية الفقيرة بالعمل على توفير مسكن وغذاء متوازن وملبس ملائم ورعاية صحية رخيصة وتعليم مجانى. وبالمقابل فى مجال الإنتاج يشدد البرنامج على حماية الملكية الخاصة والنظام الاجتماعى، ويوجب الكسب على القادرين، ومساعدة العاطلين على إيجاد وظائف. ويطالب برنامج الإخوان بحرية النقابات عموما ضمن مطالباته بتحرير المجتمع المدنى، ولكن اهتمام البرنامج منصب بالأساس على النقابات المهنية.
والخلاصة أن الطبقات العاملة والفقيرة تحتل فى وعى الجماعة وضع المساكين الذين تجب مساعدتهم، لا وضع مواطنين متساوين فى الحقوق بما يمكنهم من النضال فى سبيله تحقيق مطالبهم. فالحركة عموما ضد أى صراع عدا تكتيكاتها المهادنة لفرض الخيار الدينى الفقهى. وتاريخيا، تبنت حركة الإخوان أسلوب التوفيق بين العمال وأصحاب العمل المسلمين. ورؤيتها فى مجملها لا تبعد كثيرا عما قام به الضباط الأحرار، أى مبدأ الوصاية والرعاية من جانب أصحاب اليد العليا، مع إضافة سياق دينى يعمق احترام العمال لـ”سادتهم” من الأفندية وأصحاب الأعمال. والإخوان ليسوا حاليا فى نزاع مع منظمات الطبقة العاملة، ربما بسبب ضعفها أصلا، ولكن فى ضوء التاريخ ربما يُتوقع منهم فى المستقبل إعادة تشغيل برنامجهم الوصائى. فحركة الإخوان بالنسبة للحركات اليسارية تحتل موقعا رجعيا.
مصادر خطورة الإخوان على الديمقراطية:
سبق أن تناولنا برنامج الإخوان فى حالة وصولهم للسلطة. غير أن خطورة الإخوان على أى إصلاح ديمقراطى حقيقى لا تقتصر على ذلك، بل تشمل الوضع الحالى، المتمثل فى تغلغلهم داخل الجهاز الإدارى والإيديولوجى للدولة، وإشاعة منطقهم فى التعليم والثقافة والإعلام والقانون، وسعيهم للهيمنة على المجال الإيديولوجى بصفة عامة. وقد تسبب الإسلاميون عموما بالفعل فى انهيار كبير فى محتوى التعليم الدينى واللغة العربية والتاريخ استكمالا لما قام به الضابط/ الإخوانى كمال الدين حسين منذ الخمسينيات. وبالطبع فإن الإخوان غير راضين عن الوضع فى كل هذه المجالات، ويشعرون أن المجال العام لا يخضع تماما لرغباتهم، ولكنهم مع ذلك حاصلون بالفعل على قطعة محترمة من الكعكة. وفى ظل مناخ الأسلمة العام، وما يرتبط به من ضيق أفق، لا يُستبعد أن يحققوا جانبا معتبرا من برنامجهم للهيمنة الإيديولوجية، حتى بغير الحصول على أغلبية داخل البرلمان، مستعينين بأغلبية حكومية تخضع فى ظرف معين للابتزاز، أو تكون نصف مؤسلمة.
فضلا عن ذلك، ثمة خطورة كامنة فى أن يؤدى المزيد من هيمنة الخطاب الإسلامى الأصولى إلى تبلور خطاب أعنف يتخطى أيضا مسألة التحديث بمجملها، ويحرك جيوشا من “اللا منتمين” على النمط الفاشى، تضع المجتمع بأكمله، والإخوان أيضا، أمام خيارات صعبة. وقد يأمل الإخوان فى مثل هذه الحالة (خاصة إذا واجهوا صعودا مقابلا للتيارات الليبرالية واليسارية)، أن يصلوا إلى السلطة باعتبارهم حماة النظام ومنقذيه من الفاشية الإسلامية، مراهنين بذلك على استخدام صعود سياسى فاشى إسلامى لصالحهم. ويبدو أنه كان ثمة خيار كهذا فى الثمانينيات، حيث ترافقت إدانة الإرهاب مع الدفاع عن ممارسيه والمطالبة بالرفق بهم ومنح الإخوان ورجال الدين دورا أكبر فى الكعكة السياسية والإيديولوجية، على أساس أنهم الأقدر على مواجهتهم.
ويمكن القول، حتى بصرف النظر عن هذا التكتيك الخطر، بأن أصولية الإخوان قنبلة موقوتة تهدد المشروع السياسى الذى تحمله قطاعاتهم الأكثر تقدما. فهم يعلمون مثلا أن ما “تفضلوا به” على “الأخوة المسيحيين”، قابل هو ذاته للنقض والمراجعة من جانب أصوات أكثر أصولية. فلا تاريخ الخلافة الإسلامية مع غير المسلمين، ولا التراث الفقهى الطويل الذى يتمسكون به كثيرا فى مواجهة المجددين، يبرر تماما حتى هذا النذر اليسير الذى يطرحوه (هم فى الحقيقة لا يقدمون شيئا، فما يطرحونه متحقق بالفعل). وكتب أحكام أهل الذمة بها أهوال تتجاوز بكثير موضوع الجزية، مما لا يمكن التفوه به، لأنه ربما يدخل وفقا لمعايير العصر فى باب البربرية. ولكن لأن الكلام موجود فى كتب الفقه صدرت عن مرشدهم القوى السابق مصطفى مشهور تصريحات بشأن إعادة نظام الجزية.
تقييم سياسى وتصور لموقف عملى من الإخوان:
يقوم موقف كثير من القوى من تنظيم الإخوان على رفض وجوده السياسى من حيث المبدأ، نظرا لما يشكله من خطورة كبيرة على أى تصور ديمقراطى حقيقى كما رأينا. وفى نفس الوقت لا يمكن استبعاد التيار الإسلامى، وعلى رأسه الإخوان، من المسرح السياسى بغير دولة شديدة القمعية، لا يستقيم أن تنادى بها أية قوة تصف نفسها بالديمقراطية تحت أى مبرر. أضف إلى ذلك أن تأجيل تحرير المجال السياسى بحجة خطر الإسلاميين يهدد فعليا بالمزيد من نمو نفوذهم. فالتجربة التاريخية توضح أن النظام الاستبدادى يشكل تربة خصبة لنمو هذا التيار، وبالتالى لا يعد تأجيل الحل الديمقراطى بلحظة أخرى مناسبة تكون فيها القوى الديمقراطية فى وضع أفضل لمواجهة الإخوان. ويعنى القبول الضمنى لدور النظام فى الحد من خطورة الإخوان الترخيص له فعليا بلعب ورقة صراع التيار الإسلامى وخصومه (ومنهم نحن) لصالح استمراره، فيما يعرف بسياسات التوازن.
فى مقابل خيار الاحتماء بدولة الاستبداد ضد الإسلاميين، ثمة إمكانية للرهان على أن يكون المجتمع الديمقراطى هو الحصن ضد استفحال تيار له جذور قوية معادية للديمقراطية، وربما الضغط عليه لتعديل أطروحاته فى اتجاه ديمقراطى. وبالمقابل فإن قبول الإخوان فى منافسة انتخابية سلمية على السلطة بلا قيد أو شرط، أو الترويج لهذا الخيار معزولا عن نقد جذرى للديكتاتورية الفقهية يعنى ببساطة المساهمة فى تعريض حياة وأوضاع وحريات قطاعات مهمة من السكان للخطر الفادح. وربما يتمثل الحل الممكن لهذه المعضلة ذات الوجهين فى الدخول فى حوار سياسى مع الإخوان والإسلاميين عموما، بهدف أن يقدموا ما يدل على قبولهم توافقا ديمقراطيا له أسس أوسع بكثير من تصورهم الانتخابى لها.
وهنا ينبغى أن نوضح أن تحركات الإخوان الأخيرة تحت شعارات ديمقراطية تظل فى إطار محاولة استثمار فائض الضغط الأمريكى الأوربى للحصول على شرعية من داخل النظام القائم. وتدل التطورات على أن خيار الجماعة الاستراتيجى هو الوقوف إلى جانب النظام الاستبدادى، مع الضغط عليه. وهو حساب مبنى من الأصل على اتفاق النظام والجماعة على تجنب إصلاح ديمقراطى أصيل، ومواجهة مطالب الإصلاح الخارجية والداخلية التى تمس سياسات الهوية ومكاسب التشويه الإيديولوجى الدينى الذى حققه التيار الإسلامى فى العقود الأخيرة. وفى نفس الوقت تأمل الجماعة من خلال تحركاتها وشعاراتها الأخيرة فى الحصول على اعتراف المعارضة بها كطرف فى المعسكر الديمقراطى، وكذلك سحب البساط من تحت أقدامها، وتوظيف الشعارات الديمقراطية المشتركة من أجل مزيد من الضغط على النظام للحصول على الشرعية القانونية.
وإذا كان هذا التحليل يبين أن الجماعة لا تتحرك نحو نظام ديمقراطى حقيقى، فإنه يشير مع ذلك إلى أن الجماعة فى مفترق طرق، بين التحول إلى حزب تحديثى محافظ على غرار الأحزاب المسيحية الأوربية مثلا، أو التراجع نحو مزيد من الأصولية. فتحركات الإخوان الأخيرة، أيا كانت النوايا، تقربهم موضوعيا من المعارضة الديمقراطية، وتحول دون طرح أنفسهم بوصفهم اللاعب الشرعى الوحيد. فالألعاب والتحركات والمؤسسات الديمقراطية لها منطقها الخاص، الذى يصعب صبه فى قالبهم الضيق الذى يأملون فى أن يحشروا فيه كل ذلك.
وهكذا يطرح هذا المقال للنقاش العام فكرة الحوار مع الإخوان وشروط مساندة مطالبهم الديمقراطية فى الحصول على حزب، وإمكانية المساعدة فى تطورهم نحو الديمقراطية.
وللقوى الديمقراطية دور كبير فى المساعدة على تحقيق تطور الإخوان نحو الديمقراطية. فمن حيث المبدأ ليس تطور موقف الإخوان كما رصده المقال راجعا إلى تأمل فقهى أو فكرى محض. فالمرجعية الإخوانية الرسمية ممثلة فى القرآن والسنة ومدارس الفقه لا تقدم جديدا.. لأنها تراث ثابت منذ أكثر من ألف عام. وإيديولوجيتهم الرسمية بوضعها هذا لا تملك مفاتيح فهم العالم أو نقده أو تطويره. فعلى عاتق القوى الحديثة فعلا، الديمقراطية واليسارية، تحديد المحتوى الفكرى الذى يحقق مهام النهضة، كشرط مسبق لتطور فكر الإخوان. وبالطبع فإن فعالية هذا المحتوى تعتمد تماما على فاعليته الواقعية أيضا فى ساحة الصراع السياسى.
والرهان على تطور الإخوان بما يصل إلى قبولهم كحزب محافظ له خلفية دينية داخل نظام ديمقراطى يستند أساسا إلى طموحات التحديث التى توجه عملهم. وبهذا المعنى يمكن المراهنة على أن القطاعات الأكثر مدينية وتطورا منهم تدرك، أو قابلة لأن تُدرك، خطورة الخطاب الإسلامى الشعبوى الأصولى، كما أنها تدرك، أو يمكن أن تدرك، الحاجة إلى تعددية سياسية ناجحة ونشطة لتجنب خيار إسلامى سلطوى تماما يتعارض مع مطالب التحديث، حتى التقنى، ومع الأوضاع الدولية، ومع مصالح القوى التى تؤيدهم نفسها. وفى المستقبل، قد تصل هذه القطاعات إلى إدراك ضرورة نقل مركز مفهومها عن الإسلام من الشريعة إلى العقيدة، لأنه طالما ظلت فكرة الشريعة سائدة، سيظل ثمة شىء يأكل فى قلوب بعض أعضاء الجماعة: أنهم يقدمون تنازلات “للكفار”، بالسماح بوجودهم أصلا، ناهيك عن السماح بنشاطهم أو بنقدهم للتيارات السياسية الإسلامية.
ومع نموهم التنظيمى الكبير، وبسبب طبيعة الطبقات التى يعتمدون عليها، يجد الإخوان أنفسهم فى حاجة إلى، أو لهم مصلحة فى، وضع ضوابط قانونية لنشاطهم بدلا من الضوابط الأمنية الحالية، التى تعرض عناصرهم ومتعاطفيهم لضربات تجرى وفقا لحسابات أمنية. وهو ما لا يتحقق إلا بالاحتماء بقوى التحديث الأخرى على أساس حد أدنى مشترك، ونظام سياسى، لا بوليسى، وهو ما يتطلب أن يكون نظاما سياسيا مقبولا من كثير من الأطراف على الأقل.
أما من جانب القوى الديمقراطية، فتتمثل نقطة الخلاف الجوهرية مع الإخوان فى مفهوم الديمقراطية نفسه، وبالتالى فكرة الدستور الديمقراطى المقترح. فالمبدأ الأساسى للديمقراطية يقوم على أن الناس بكافة عقائدهم وأجناسهم وألوانهم متساوين أصلا لمجرد أنهم ناس، ولهم نفس الحق فى صياغة نظامهم السياسى والاجتماعى والاقتصادى وتعديله، الخ. فالحرية ليست مجرد انتخابات، بل حريات الأفراد بصفة عامة فى التعبير والاجتماع والعقيدة والإبداع والاحتجاج والتغيير.. وباختصار: مبدأ الفردية. والديمقراطية نظام سياسى له أساس فلسفى، يفترض أصلا أن الشعب كأفراد يتولى صياغة وتعديل سياساته ويغير حكومته، بل ودستوره، وفقا لرؤيته وتغيرها. وانطلاقا من مبدأ الفردية، ليس لأية أغلبية مهما بلغت الحق فى أن تقرر الاعتداء على حرية فرد أو تغييره لمعتقداته، أو تقرر له مسارا معينا، ما لم يلحق أذى مباشرا بشخص أو أشخاص آخرين. وباختصار، ليست الحرية انتخابات، وإنما الانتخابات الحرة محصلة لنقاش سياسى حر فى نظام ديمقراطى.
وبناء على هذه المبادئ، يستحيل أن تقوم ديمقراطية على دعوى سيادة جماعة معينة عن طريق تفضيل دينها أو لونها أو جنسها فى الدستور، بدعوى أنه دستور الأغلبية. فهذا يعنى إخراج الآخرين فعليا من الإجماع السياسى الذى تقوم عليه فكرة الدستور نفسها، وبالتالى يكون الدستور المقر بأغلبية انتخابية مجرد إعلان حرب أهلية مستترة مغطاة بوسائل انتخابية. ومن هنا لا معنى للاتفاق مع الإخوان على إقامة نظام، كالذى اقترحوه فى وثيقتهم، تكون أطره الدستورية عبارة عن نصوص مستقاة من إيديولوجيتهم. وبالتالى فإن فكرة الديمقراطية الربانية غير مقبولة أصلا، لأنها تضع شروطا دستورية مسبقة تعطى للتيارات الإسلامية اليد العليا من حيث المبدأ. وبالتالى لا يمكن قبول صياغة دستور يكون قائما على فكرة “ثوابت الأمة”، سواء كانت ثوابت دينية أو قومية أو غيرها. فهذا يتعارض مع مبدأ المنافسة السياسية على أساس المساواة بين التيارات السياسية المختلفة. كما أن احترام العقائد الدينية لا يكون بوضعه أحدها فى الدستور، على طريقة “المصدر الرئيسى للتشريع”، فهذه وسائل سلطوية، وإنما عن طريق إرادة أفراد الشعب الحرة المتجددة فى عملية التشريع، وبما لا يؤدى إلى الافتئات على طائفة منهم ووضعها فى موضع أدنى.
أما فكرة “حرية الجماعة” التى يطلقها بعض مفكرى التيار الإسلامى فى مواجهة فكرة حرية الفرد، كتنظير “علمانى” يبرر قيام دولة دينية، فقد انكشفت بالفعل منذ زمن كمجرد ورقة توت تغطى عورة ديكتاتورية تمارَس باسم الجماعة، وتتعارض مع المبدأ الديمقراطى القائم على أن حقوق الجماعة موزعة بالتساوى بين أعضائها، بحيث لا يمكن لأغلبية أو أقلية أن تنتقص من حقوق الطرف الآخر بدعوى خروجه على “حرية الجماعة”.
ويجب التأكيد أيضا على رفض المشروع السياسى الإخوانى من حيث أنه يقيم دولة طائفية فعلا، وغير طائفية اسما، عن طريق اختصار مشكلة الاختلافات الدينية فى ما أسمته وثيقتهم “مجال الأخوة الأقباط” المخصص لهم بطريقة فاقعة فى التمييز! فبالإضافة إلى رفض التمييز الواضح ضد الأقباط، المطروح وكأنه المساواة بعينها، يجب أيضا رفض اضطهاد هذا العدد الكبير من الشيعة المصريين والصوفيين والباطنيين وأصحاب التفسيرات الخاصة للإسلام، برفض تجريمهم وعزلهم ومحاصرتهم وإلجائهم إلى التقية، لأنه يتنافى مع مبدأ حرية العقيدة (التى تشمل بالمناسبة دائما الدعوة إلى هذه العقيدة). وليس للإخوان أن يقدموا تفسيرهم السُنِّى الفقهى الأصولى للدين بوصفه “الإسلام” بألف لام التعريف، مصادرين بذلك على حقوق الآخرين. كما لا يجوز السماح للإخوان ولا للأزهر، ولا لأية مؤسسة أيا كانت، أن تعيد كتابة تراث العصور الإسلامية على هواها، بحذف ما تراه غير مناسب لرؤيتها الفقهية الضيقة للإسلام.
وبالنسبة لنا، فإننا بلا شك نناصر تفسيرا أكثر تقدما وانفتاحا للإسلام، وخاصة تفسيرات المجددين من أمثال نصر حامد أبو زيد وجمال البنا وأحمد صبحى منصور، الذين يحاولون إنقاذ الدين من قميص الشريعة الأصولى الضيق، والدفاع عنهم فى مواجهة اضطهاد الأصوليين لهم. فحريات المجتهدين على اختلافهم، فى الدين وغير الدين، جزء لا يتجزأ من أى مشروع ديمقراطى.
ومن الناحية السياسية يجب تشجيع الإخوان على التحول إلى حزب سياسى شرعى، بمعنى تحويل الجماعة إلى حزب، لا إقامة حزب إلى جانب الجماعة. فالتنافس فى الحلبة السياسية يجب أن يكون بين جماعات لها وضع قانونى متساو. وإذا قبل الإخوان التحول إلى حزب فإن هذا يعنى إما حل التنظيم الدولى أو تحويله إلى “دُوَلية” أو منتدى حوار بين الأحزاب الإسلامية، على غرار “الدُولية الاشتراكية”. وينبغى أن يخضع تمويل الحزب ومشاركته فى الانتخابات لنفس الضوابط التى تخضع لها الأحزاب الأخرى، سواء بالنسبة للتمويل الداخلى أو الخارجى. ولا يُقبل فى هذا الصدد أن يقال أن التمويل من مسلمى السعودية حلال (ومن الأنظمة العربية بالنسبة للقوميين) بينما التمويل من الجماعة الأوربية مثلا حرام. فهذه طريقة أخرى للقول بأن مشروعية الإخوان تفوق مشروعية غيرهم من الأحزاب، فضلا عن آثارها فى عدم التكافؤ.
وفى كل تفاوض، يجب تبنى سياسات معينة للحد من الكراهية بين أصحاب العقائد وتجريم الحض عليها، بتعاون الإخوان أنفسهم. كما يجب أن يقبل الإخوان إتاحة الفرصة المتساوية والكاملة لكل أطراف اللعبة السياسية المفتوحة فى الدفاع عن أفكارهم ونقد فكر الإخوان، سواء من حيث برامجه أو أصوله. كما يجب أن نطالب الإخوان بالاعتذار عن تاريخهم فى العنف، ليس بغرض إذلالهم، ولكن كضمانة، كميثاق شرف معلن يمنعهم أدبيا من الارتداد إلى عهد الجنازير والكرابيج فى الوقت الذى يناسبهم.
هذه البنود فيما نرى يجب أن تكون على رأس قائمة الموضوعات فى أى حوار مع الإخوان. الإخوان زملاء فى بلادنا، ويتحركون على نفس الأرضية الاجتماعية تقريبا التى تتحرك عليها كثير من التيارات السياسية والفكرية الأخرى، وبالتالى هناك الكثير من الهموم والمشاكل والمهام المشتركة. ولكن التعاون لا يكون على أساس قبول الاستعباد للمفاهيم والأجندة الإخوانية المتخلفة بوضعها الحالى.
والآن، يخوض الإخوان برغم كل شىء نضالا تحت شعارات ديمقراطية. والديمقراطية لا تتجزأ.. ومن هنا فالدفاع عنهم أمام عسف السلطة واجب على كل القوى الديمقراطية. ومع ذلك يجب التفرقة بوضوح بين واجب الدفاع عن حق الإخوان فى التظاهر، باعتباره حقا ديمقراطيا عاما، وبين نقد برنامجهم وفضح صياغاته التسلطية ومطالبتهم بقبول حقيقى للديمقراطية، كشرط للتعاون.
يرى الإخوان بأصوليتهم الحالية أنهم على “الحق” – بألف لام التعريف – بضمانة إلهية. ونحن نرى أننا على حق لأننا أوسع أفقا وأكثر إنسانية وأقدر على استيعاب المختلفين، بل واستيعاب الأصولية نفسها، بشرط تخليها عن مشروع فرض منطقها كإطار عام للحركة السياسية والاجتماعية والفكرية. وبالطبع فإننا نعتبر وجودنا وحريتنا فى التعبير أمرا مفروغا منه، ولا ننتظر بشأنه تصديقا من الإخوان ولا من غيرهم.
المصدر: http://elbosla.org/?p=192